مدخل إلى تاريخ الشرق القديم / ملحمة جلجامش / فراس الســواح
صفحة 1 من اصل 1
مدخل إلى تاريخ الشرق القديم / ملحمة جلجامش / فراس الســواح
2008-01-01 10:07:00 | مدخل إلى تاريخ الشرق القديم / ملحمة جلجامش / فراس الســواح | |
مكان الحدث وزمانه: اعتماداً على ما توفر لدينا حتى الآن من معلومات أركيولوجية وتاريخية، يمكننا اعتبار مدينة أوروك السومرية أول مدينة حقيقية في التاريخ والنموذج الأسبق لكل المدن التي قامت بعدها. فالبينات الأركيولوجية الراهنة تدل على أن أوروك كانت أكبر المدن السومرية في مطلع عصر الأسرات، وأنها قد بلغت مرحلة المدينة الحقيقية قبل غيرها من المراكز الحضرية في وادي الرافدين الجنوبي. وتأتي البينات الكتابية والأخبار المتناقلة عن ذلك العصر في اتفاق مع البينات الأركيولوجية. فإذا أراد المؤرخ أن يقدم مثالاً على أعرق مدينة في أعرق حضارة مدينية، فإن مدينة أوروك ستكون له النموذج والمثال المناسب. وصلت أوروك قمة ازدهارها خلال أواسط عصر الأسرات الأولى، حوالي عام 1 2600 ق.م. ويرجح علماء الآثار أن سورها العظيم قد بُني حوالي ذلك التاريخ، وأنه قد أحاط بمساحة تقدر بأربعمئة هكتار. أما عدد سكانها فقد وصل إلى 50.000 نسمة. فإذا عرفنا أن عدد سكان مدينة روما إبان العصر القيصري لم يتجاوز الـ 150.000 نسمة، لأدركنا أيّ عظمة بلغتها مدينة أوروك في ذلك الوقت المبكر من مطالع التاريخ المكتوب. أوروك أواسط عصر الأسرات هذه هي مدينة جلجامش، الملك الذي تعزو إليه الأساطير والنصوص الإخبارية بناء السور الكبير من حولها وأهم الأوابد المعمارية فيها. وهي مركز أحداث ملحمتنا البابلية. البطل: هل كان جلجامش رجلاً من لحم ودم، أم شخصية خيالية خلقتها الأساطير وملاحم البطولة؟ هناك نصوص أدبية سومرية تتحدث عن جلجامش، ولكن هذه النصوص قد دونت على ما يبدو خلال فترة أسرة أور الثالثة، أي بعد عدة قرون من التاريخ المفترض لحياة جلجامش. ولا يوجد بين أيدينا حتى الآن نص من عصر جلجامش يذكره، سواء من أوروك نفسها أم من غيرها من المدن السومرية. غير أن ما يعوض النقص في هذه المصادر المباشرة أن الشخصيات التي تذكر النصوص السومرية علاقتها بالملك جلجامش، قد أمكن التثبت من وجودها التاريخي من خلال وثائق كتابية ترجع إلى عصرها وعصر جلجامش. من هذه الشخصيات الملك إن- ممباغيزي ملك كيش، وابنه أجا الذي نازع جلجامش في النص المعروف بـ «جلجامش وأجا». وهناك أيضاً الملك ميسانيبيدا ملك أور وولداه. يضاف إلى ذلك أن الوثيقة السومرية المعروفة بـ «ثبْت ملوك سومر»، والتي أعطتنا أسماء العديد من ملوك عصر السلالات الأولى الذين ثبت وجودهم تاريخياً، قد جعلت من جلجامش الملك الخامس في أسرة أوروك الأولى التي حكمت بعد الطوفان، أي خلال أواسط عصر السلالات الأولى. فإذا قاطعنا وثيقة ثبت ملوك سومر والأخبار المتفرقة التي تعزو إلى جلجامش بناء سور أوروك مع نتائج علم الآثار التي ترجع بناء هذا السور إلى أواسط عصر الأسرات الأولى، لخرجنا بمحصلة أخيرة تؤيد وجود ملك تاريخي اسمه جلجامش حكم مدينة أوروك في زمن ما خلال النصف الثاني من القرن السابع والعشرين قبل الميلاد. إلى جانب النصوص الأدبية والإخبارية، لدينا من القرن الخامس والعشرين على الأقل شواهد نصية طقسية تدل على أن جلجامش قد تم تأليهه في أكثر من منطقة سومرية. ويجب أن لا نفهم من «التأليه» هنا أن جلجامش قد دخل مجمع الآلهة السومرية، لأن مفهوم «الإنسان المؤله» بعد موته، في الحضارات القديمة، ذو علاقة بمؤسسة عبادة الأسلاف. فجلجامش قد غدا بعد موته أحد الأسلاف المؤلهين الذين تنتشر عبادتهم على النطاق الشعبي بعد موتهم، بسبب الأعمال الجليلة التي قاموا بها في حياتهم والنفع العام الذي جلبوه لجماعتهم. فالسلف المؤله والحالة هذه، هو أشبه بالأولياء الصالحين في الإسلام أو جماعة القديسين في المسيحية، أو أعلى بقليل. وهكذا، فلدينا نصوص طقسية من مدينة لجش السومرية ترجع إلى القرن الرابع والعشرين، تشير إلى أن القرابين كانت تُقرَّب إلى جلجامش باعتباره شخصية إلهية، وكذلك الأمر في عدد من المدن السومرية الأخرى خلال حكم أسرة أور الثالثة التي اعتبر ملوكها جلجامش بمثابة الإله- الحارس الشخصي لهم. وفي نهاية فترة أور الثالثة اتخذ جلجامش في المعتقدات الدينية دور القاضي في العالم الأسفل، واستمر في دوره هذا حتى أواخر الألف الأول، على ما تدل عليه النصوص الطقسية من تلك الفترة. ولدينا من الشواهد الكتابية ما يشير إلى أن دورة ألعاب رياضية كانت تقام على شرف جلجامش في شهر آب/ أغسطس من كل عام، يتبارى خلالها الشباب في المصارعة وألعاب القوى الأخرى. وقد بقيت هذه الممارسة قائمة حتى العصر الآشوري الحديث، وكان الآشوريون يدعون شهر آب بشهر جلجامش. |
السيرة
:
ملحمة جلجامش هي نص شعري طويل مكتوب بالأكادية البابلية، وموزع على اثني عشر لوحاً فخارياً. تروي الملحمة عن حياة وأعمال الملك جلجامش ملك مدينة أوروك السومرية بطريقة يمتزج فيها التاريخ بالأسطورة. وقد وجدت الألواح في مكتبة الملك آشور بانيبال تحت أنقاض القصر الملكي بالعاصمة الآشورية نينوى. يدعى نص نينوى هذا بالنص الأساسي، أو المعياري «Standard Version»، لأنه الشكل الأدبي الأخير الذي اتخذته الملحمة بعد فترة طويلة من التطور والتغير دامت قرابة ألف عام. ويتميز هذا النص الأساسي عن بقية النصوص السابقة عليه، بأن ألواحه الفخارية خرجت سليمة نسبياً، وفي حالة تسمح بقراءة متسلسلة، رغم الكسور الحاصلة في بعضها والتشوهات التي اعتورت الكثير من سطورها. ونص نينوى هو سليل نص أقدم منه بكثير دوّن خلال العصر البابلي القديم، واستلهم كاتبه عدداً من النصوص الأدبية والأسطورية السومرية التي تدور حول جلجامش، وبعض الأخبار المتفرقة المتداولة عنه، وحاك من ذلك كله، وبطريقة مبدعة خلاقة، نصه الذي ندعوه اليوم بالنص البابلي القديم.
تجري أحداث الملحمة التي دعاها أهل ذلك الزمان بسلسلة جلجامش وفق الملخص الآتي:
كان جلجامش ابناً للإلهة ننسون حملت به من ملك أوروك المدعو لوجال بندا، فجاء ثلثه إنساناً وثلثاه إلهاً، متفوقاً على جميع الرجال بخصائصه الجسمية والعقلية. حكم أوروك وهو في مقتبل العمر، فطغى وبغى على أهلها حتى ضاقت بهم السبل، فحملوا شكواهم إلى مجمع الآلهة يطلبون منهم العون على رد مليكهم إلى جادة الصواب. استمع الآلهة إلى شكواهم وارتأوا خلق ندٍ لجلجامش يعادله قوة وجبروتاً ليدخل الاثنان في تنافس دائم يلهي جلجامش عن رعيته، وعهدوا بهذه المهمة إلى الإلهة الخالقة آرورو، المعروفة في الأساطير الرافدية بأنها خالقة الجنس البشري، فقامت آرورو بخلق إنكيدو من قبضة طين رمتها في الفلاة.
نشأ إنكيدو مع الغزلان في البراري، يطوف الفلاة مع القطعان كواحد منها. وفي أحد الأيام رآه صياد فتى وهرع إلى أبيه يحدثه بشأنه، فاقترح عليه الأب أن ينقل الخبر إلى ملك البلاد. مضى الصياد فمثل في حضرة الملك وقص عليه خبر الرجل الوحش، فاهتم جلجامش بالأمر ورغب في إحضار ذلك المخلوق الغريب إليه. أمر كاهنة حب من معبد عشتار أن تذهب مع الفتى إلى البرية وتحاول استمالة ذلك الرجل ثم تأتي به إليه بعد أن يفيء إلى أحضانها ويأمن إليها. تكمن المرأة والفتى عند النبع الذي يرده إنكيدو للشرب مع القطعان. وفي نهاية ثلاثة أيام من الانتظار يظهر إنكيدو، فتبرز إليه المرأة وتكشف له عن مفاتنها. ينسى إنكيدو صحبه من ذوات الظلف والحافر ويقترب من المرأة ويلامسها وتلامسه، ثم يفيء إلى أحضانها ثلاثة أيام. وعندما يحاول القيام ليلحق بصحبه يجد أن ساقيه لم تعودا قويتين، وأنه غير قادر على الركض كالسابق، فيرجع إلى المرأة التي تبدأ تحدثه عن جلجامش وعن مدينة أوروك، وتقنعه بأنه لم يخلق لحياة البراري بل لحياة القصور، فيتوق إنكيدو للقاء جلجامش علَّه يحظى بصديق. ولكن كان عليه قبل ذلك أن يتحداه مظهراً قوته ونديته له. تقود المرأة إنكيدو إلى مساكن الرعاة، وهناك تلبسه الثياب وتعلمه أكل الخبز وشرب الخمر وأسلوب الحياة المدنية، وبعد فترة تنطلق به إلى أوروك.
وصل الاثنان إلى المدينة وهي في ذروة احتفال كبير، فابتهج الناس لرؤية إنكيدو وهتفوا: إنه ندٌ لجلجامش، سيدخلان في تنافس دائم وتستريح أوروك. وبينما جلجامش يخطو عتبة باب المعبد لأداء طقوس العيد، تصدى له إنكيدو في الساحة وتحداه، فدخل الاثنان في صراع اهتزت له جدران المعبد، وكانت الغلبة أخيراً لجلجامش الذي طرح خصمه أرضاً ومنع حركته. وهنا تهدأ ثورة جلجامش ويرخي قبضته عن غريمه ثم يستدير ماضياً في طريقه، فيناديه إنكيدو بكلمات تمتدح رجولته ومروءته، وتكون فاتحة صداقة عميقة بين الطرفين. ثم ما نلبث أن نجد إنكيدو مقيماً في القصر الملكي صديقاً وناصحاً للملك.
عقب لقائه بإنكيدو غيَّر جلجامش من سلوكه في الحكم والإدارة، وأرخى قبضته عن رعيته. وما نلبث أن نراه في حالة تأمل عميق في مسألة الحياة والموت، راغباً في الإقدام على فعل جليل يخلد ذكره عبر الأزمان بعد مماته. ثم يفضي بمكنون فؤاده إلى إنكيدو، ويطلعه على نيته في الشروع بمغامرة كبيرة تستهدف الوصول إلى غابة الأرْز في أقصى الغرب وقتل حارسها خمبابا، الذي أقامه هناك الإله إنليل وأوكله برعاية المكان وحمايته. يجزع إنكيدو لسماع ذلك، فهو رأى الوحش خمبابا عندما كان يطوف البراري مع القطعان وناله منه الخوف الشديد. رآه يزأر في الغابة كعاصفة الطوفان ومن فمه تندفع ألسنة اللهب، وأنفاسه تجلب الموت الزؤام عن مسافة بعيدة. وبعد نقاش ومداولة رضخ إنكيدو لرغبة جلجامش ومضى الاثنان إلى معبد ننسون للحصول على بركتها، فصلَّت ننسون إلى الإله شَمَشْ، حامي جلجامش، ودعته أن يحفظ ابنها وصديقه ويرجع بهما سالمين. وعند البوابة التي اجتازها البطلان في طريقهما خارج أوروك تجمع الناس لوداعهما، وأتى شيوخ أوروك لإسداء النصح لهما وتوصية إنكيدو بالسهر على سلامة صاحبه.
بعد رحلة مليئة بالمخاطر والأهوال، وصل الصديقان غابة الأرْز واقتحما بوابتها المسحورة التي سببت شللاً مؤقتاً لذراع إنكيدو، ثم أخذا يقطعان شجر الأرْز. وما لبث صوت خمبابا أن سُمع هادراً من أعماق الغابة يتساءل عن الذي تجرأ على اقتحام الغابة وقطع شجرها. انقض خمبابا على الغريبين دون مقدمات، ودارت بين الطرفين معركة حامية الوطيس، مالت في البداية لصالح خمبابا، ولكن الإله شمش أمدهما بثمانية أنواع من الرياح هبت في وجه الوحش وشلت حركته، فأمسكا به وقطعا رأسه فقدماه قرباناً لشمش.
عاد البطلان إلى أوروك وغسلا عنهما وعثاء السفر. وعندما أكمل جلجامش ارتداء لباسه الملكي، شخصت الإلهة عشتار إلى قامته الفارعة وهامت به حباً، وعرضت عليه الزواج منها معددة الهدايا والأعطيات التي ستمنحه إياها إذا قبل العرض. ولكن جلجامش رفض عرض عشتار مندداً بخياناتها المعروفة لعشاقها وأزواجها، وذلك بكلمات قاسية لاذعة جرحت كبرياء الإلهة. ثارت ثائرة عشتار وعرجت صاعدة إلى السماء العليا، فمثلت في حضرة كبير الآلهة آنو وشكت إليه إهانة جلجامش، طالبة أن يسلمها قياد ثور السماء، الكائن الوحشي المهول، لتهلك به جلجامش، وهددت أنها في حال الرفض سوف تحطم بوابات العالم الأسفل فيخرج الموتى ليأكلوا ويشربوا مع الأحياء وتعم المجاعة في الأرض. نزل آنو عند رغبة الإلهة الغاضبة وأسلمها قياد ثور السماء فأطلقته في مدينة أوروك يعيث فساداً فيها ويهلك المئات من أهلها. ولكن جلجامش وإنكيدو ما لبثا أن تصديا للثور، وبعد صراع مرير قتلاه وقدما قلبه قرباناً للإله شمش.
بعد هذا الحدث الجلل، عقد الآلهة اجتماعاً في السماء وقرروا أن يموت واحد من البطلين عقوبة لهما على قتل خمبابا وثور السماء، ووقع الخيار على إنكيدو. وقع إنكيدو فريسة الحمى بضعة عشر يوماً، ثم أسلم الروح بين ذراعي جلجامش الذي راح يدور حول صديقه المسجى كلبوة فقدت أشبالها وهو بين مصدق ومكذب يبكي ويقطع شعر رأسه. احتفظ جلجامش بجثة إنكيدو ثلاثة أيام رافضاً تسليمه للدفن عسى من بكائه عليه يفيق من غيبوبته، إلى أن سقطت دودة من أنف الجثة التي أخذت تتفسخ. عند ذلك صحا جلجامش من هذيانه وتأكدت له الحقيقة المرة. أقام لإنكيدو طقوس حدادٍ لائقة، ثم انسل من قصره وحيداً شريداً تطارده فكرة الموت. لقد تحول جزعه على صديقه إلى قلق على مصيره الشخصي وخوف من موته هو.
تطوح جلجامش في البراري يصطاد الحيوانات فيغتذي بلحومها ويقنص الآساد فيرتدي جلودها. وهدفه الوصول إلى الحكيم أوتنابشتيم، المخلوق الوحيد الذي أنعمت عليه الآلهة بالخلود وأسكنته مع زوجته في جزيرة نائية تقع خارج العالم المعروف، وتفصلها عنه مفازات لانهاية لها، وبحر يموج بمياه الموت. كان عازماً على الوصول إليه بأي ثمن ليسأله عن سر الحياة والموت، وكيف يستطيع الإنسان تحقيق الخلود لنفسه.
وصل جلجامش إلى سلسلة جبال ماشو التي تحرس ذراها الفوهة التي تنزل منها الشمس إلى باطن الأرض، لتسير مسارها الليلي قبل شروقها من الطرف الآخر. وهناك سهَّل له البشر العقارب الموكلون بتلك الجبال، عبور مسالكها، ودلوه على أقصر طريق يوصله إلى أوتنابشتيم. عبر جلجامش مسالك جبال ماشو ووصل فوهة الشمس فنزل فيها ليصل عبرها إلى الطرف الآخر من العالم. وفي عمل معجز لا يقدر عليه سوى إله، اجتاز ممر الشمس السفلي في أقل من ليلة واحدة، وخرج من الطرف الآخر ليجد نفسه على شاطئ البحر الذي يفصله عن جزيرة أوتنابشتيم. وهناك تقيم سيدوري ساقية حان الآلهة، حيث يتوقف الخالدون للراحة وتناول الشراب. فزعت سيدوري لرؤية ذلك العملاق الأشعث الأغبر الذي يرتدي جلود الأسود، فدخلت حانتها وأوصدت الباب. فناداها جلجامش معلناً عن هويته وقصده، فلما اطمأنت إليه وفتحت الباب قص عليها قصته وطلب معونتها. تصادف وصول جلجامش مع وجود ملاح أوتنابشتيم المدعو أورشنابي في المكان يحتطب من أجل سيده. فدلت سيدوري جلجامش على مكانه، وأخبرته بأنه الوحيد الذي يستطيع بقاربه عبور مياه الموت، وذلك بمعونة رُقُمٍ حجرية عليها طلاسم سحرية.
انطلق جلجامش كسهم مارق إلى حيث دلته سيدوري، وفي غمرة اضطرابه وهيجانه داس فوق الرُقُم الحجرية التي كان يضعها أورشنابي جانباً وهو يحتطب، فبعثرها وحطمها. فقال له أورشنابي، بعد أن كشف له جلجامش عن شخصيته وأخبره بقصته طالباً منه العون على حمله إلى أوتنابشتيم. فقال له أورشنابي بأن يديه قد حالتا دون عبوره لأنه كسر الرُقُم التي تعين المركب على اجتياز مياه الموت. وبعد تقليب الأمور على وجوهها، توصل أورشنابي إلى حل للمشكلة. فمياه الموت التي تبدأ حدودها بعد مسيرة طويلة في البحر، هي مياه راكدة والهواء فوقها ساكن، حيث لا ريح تدفع ولا مجذاف ينفع، وحيث الرذاذ الذي يتطاير يقتل باللمس. وقد ارتأى الملاَّح المجرب أن يعمدا إلى الدفع بالمردي، وهو مجذاف طويل يستخدم عن طريق ركز طرفه السفلي في قاع الماء لا عن طريق التجذيف العادي، فطلب من جلجامش أن يحتطب من الغابة مئة وعشرين مردياً طول الواحد منها ستين ذراعاً، ففعل جلجامش. أبحر الاثنان في المركب الذي قطع في ثلاثة أيام رحلة تستغرق في الزمان والمكان المعتاد مسيرة شهر ونصف. ثم ولج المركب في مياه الموت، حيث طلب أورشنابي من جلجامش أن يبدأ باستخدام المردي. وكان عليه أن يستعمل كل مردي لمرة واحدة فقط ثم يتركه بعد الدفع إلى الماء، لئلا تمس يده ما علق عليه من ماء قاتل.
وصل جلجامش إلى أوتنابشتيم وقص عليه قصته وما جرى له، ورجاه أن يخبره كيف استطاع تحقيق الخلود لنفسه من دون بني البشر. فقص عليه أوتنابشتيم قصة الطوفان العظيم بجميع تفاصيلها وكيف انتهت إلى مكافأته بنعمة الخلود. فقد قرر الآلهة إرسال طوفان على الأرض يفني كل نسمة حية، وحددوا لذلك موعداً. ولكن الإله إيا الذي حضر الاجتماع وعرف القرار، نقل إلى الحكيم أوتنابشتيم ملك، مدينة شوريباك، قرار الآلهة وأمره ببناء سفينة عملاقة، يحمل فيها أهله ونخبة من أصحاب الحرف وأزواجاً من حيوانات البرية ووحوشها، ففعل أوتنابشتيم. وعندما أزفت الساعة وانداح الطوفان، أبحر أوتنابشتيم بسفينته وأغلق منافذها. دامت عاصفة الطوفان ستة أيام والمركب العملاق تتقاذفه الأمواج، حتى رسا في اليوم السابع على قمة جبل يدعى نصير. فتح أوتنابشتيم كوة وتطلع حدود الأفق، كان الهدوء شاملاً والبشر قد آلوا إلى الطين، فخرج وأطلق ركاب السفينة، وقدم بعض حيواناته قرباناً للآلهة. حضر الآلهة مسرعين لنداء نار القربان وقد تملكهم الندم على ما فعلوا، وعندما رأوا ما فعله أوتنابشتيم وكيف أنقذ بذرة الحياة على الأرض، فرحوا لذلك وقام إنليل بإسباغ نعمة الخلود على أوتنابشتيم وزوجته مكافأة له على صنيعه، وأسكنهما في هذه الجزيرة. ثم ينهي بطل الطوفان قصته بالقول إلى جلجامش: والآن يا جلجامش، من سيدعو مجلس الآلهة إلى الاجتماع من أجلك، فتجد الحياة التي تبحث عنها؟
بعد ذلك دعا أوتنابشتيم جلجامش إلى اختبار عسير يثبت من خلاله استعداده ومقدرته على قهر الموت الأكبر بقهر الموت الأصغر وهو النوم. فكان عليه أن يجلس في وضعية القعود ستة أيام وسبع ليال دون أن يطرق الكرى أجفانه. قعد جلجامش قابلاً تحدي أوتنابشتيم مصمماً على قهر النوم، ولكنه بعد وقت قصير غرق في سبات عميق استمر ستة أيام. وفي اليوم السابع هزه أوتنابشتيم فأفاق معتقداً أنه لم ينم إلا هنيهة. وعندما عرف حقيقة ما وقع له وتأكد من فشله في الاختبار، استعد لمغادرة الجزيرة ومعه أورشنابي الذي أمره أوتنابشتيم بمغادرة المكان دون رجعة، ومرافقة جلجامش إلى أوروك.
وبينما هما يدفعان المركب بعيداً عن الشاطئ، شعرت زوجة أوتنابشتيم بالشفقة على جلجامش وهي تراه يعود خالي الوفاض بعد رحلته المستحيلة إليهم، واقترحت على زوجها أن يقدم له بعضاً مما قدم لأجله. نادى أوتنابشتيم جلجامش وأطلعه على سر نبتة شوكية تعيش في أعماق المياه الباطنية؛ مسكن الإله إنكي، وتحمل خصيصة تجديد شباب من يأكل منها إذا بلغ الشيخوخة. غاص جلجامش في القناة المائية التي تصل إلى الآبسو، مجمع المياه السفلية العذبة، رابطاً إلى قدميه حجراً ثقيلاً يشده نحو الأسفل، وهناك رأى النبتة فاجتثها بعد أن أدمت أشواكها يديه، ثم حل وثاقه صاعداً نحو الأعلى، وهناك عرضها أمام أوتنابشتيم وزوجته شاكراً، وقال لهما إنه سيحملها معه إلى أوروك ليجعل الشيوخ يقتسمونها فيما بينهم، وإنه سيأكل منها أيضاً عندما يكبر.
انطلق الاثنان في طريق العودة الطويل. وفي إحدى المحطات التي توقفا عندها للراحة، رأى جلجامش بركة ماء بارد فنزل إليها واستحم بمائها تاركاً النبتة عند الضفة. فانسلت حية إلى النبتة وأكلتها؛ وبينما هي راجعة إلى وكرها تجدد جلدها. جلس جلجامش عند الضفة وقد انهار تماماً بعد أن فقد حتى الأمل في تجديد الشباب، وقال لأورشنابي وهو يبكي بكاءً مراً: «لمن أضنيت يا أورشنابي يديَّ، ولمن بذلت دماء قلبي؟ لم أجن لنفسي نعمة ما، بل لحية التراب جنيت النعمة». يتابع الاثنان طريقهما دون أن يعطينا النص أيّ تفاصيل مهمة عن رحلة العودة. وعندما يصلان أوروك، يشير جلجامش إلى سور أوروك الذي بناه قائلاً لأورشنابي «أي أورشنابي، أعْلُ سور أوروك إمش عليه، إلمس قاعدته، تفحص صنعة آجره. أليست لبناته من آجر مشوي، والحكماء السبعة من أرسى له الأساس». وعند هذه الأبيات التي تكرر ما ورد في بداية النص، تنتهي الملحمة، ويختم الكاتب أحداثه بمثل ما بدأها من وصف أوروك.
وسوف نخصص الحلقة القادمة من هذه السلسلة لبسط معنى النص ورسالته ومراميه
ملحمة جلجامش هي نص شعري طويل مكتوب بالأكادية البابلية، وموزع على اثني عشر لوحاً فخارياً. تروي الملحمة عن حياة وأعمال الملك جلجامش ملك مدينة أوروك السومرية بطريقة يمتزج فيها التاريخ بالأسطورة. وقد وجدت الألواح في مكتبة الملك آشور بانيبال تحت أنقاض القصر الملكي بالعاصمة الآشورية نينوى. يدعى نص نينوى هذا بالنص الأساسي، أو المعياري «Standard Version»، لأنه الشكل الأدبي الأخير الذي اتخذته الملحمة بعد فترة طويلة من التطور والتغير دامت قرابة ألف عام. ويتميز هذا النص الأساسي عن بقية النصوص السابقة عليه، بأن ألواحه الفخارية خرجت سليمة نسبياً، وفي حالة تسمح بقراءة متسلسلة، رغم الكسور الحاصلة في بعضها والتشوهات التي اعتورت الكثير من سطورها. ونص نينوى هو سليل نص أقدم منه بكثير دوّن خلال العصر البابلي القديم، واستلهم كاتبه عدداً من النصوص الأدبية والأسطورية السومرية التي تدور حول جلجامش، وبعض الأخبار المتفرقة المتداولة عنه، وحاك من ذلك كله، وبطريقة مبدعة خلاقة، نصه الذي ندعوه اليوم بالنص البابلي القديم.
تجري أحداث الملحمة التي دعاها أهل ذلك الزمان بسلسلة جلجامش وفق الملخص الآتي:
كان جلجامش ابناً للإلهة ننسون حملت به من ملك أوروك المدعو لوجال بندا، فجاء ثلثه إنساناً وثلثاه إلهاً، متفوقاً على جميع الرجال بخصائصه الجسمية والعقلية. حكم أوروك وهو في مقتبل العمر، فطغى وبغى على أهلها حتى ضاقت بهم السبل، فحملوا شكواهم إلى مجمع الآلهة يطلبون منهم العون على رد مليكهم إلى جادة الصواب. استمع الآلهة إلى شكواهم وارتأوا خلق ندٍ لجلجامش يعادله قوة وجبروتاً ليدخل الاثنان في تنافس دائم يلهي جلجامش عن رعيته، وعهدوا بهذه المهمة إلى الإلهة الخالقة آرورو، المعروفة في الأساطير الرافدية بأنها خالقة الجنس البشري، فقامت آرورو بخلق إنكيدو من قبضة طين رمتها في الفلاة.
نشأ إنكيدو مع الغزلان في البراري، يطوف الفلاة مع القطعان كواحد منها. وفي أحد الأيام رآه صياد فتى وهرع إلى أبيه يحدثه بشأنه، فاقترح عليه الأب أن ينقل الخبر إلى ملك البلاد. مضى الصياد فمثل في حضرة الملك وقص عليه خبر الرجل الوحش، فاهتم جلجامش بالأمر ورغب في إحضار ذلك المخلوق الغريب إليه. أمر كاهنة حب من معبد عشتار أن تذهب مع الفتى إلى البرية وتحاول استمالة ذلك الرجل ثم تأتي به إليه بعد أن يفيء إلى أحضانها ويأمن إليها. تكمن المرأة والفتى عند النبع الذي يرده إنكيدو للشرب مع القطعان. وفي نهاية ثلاثة أيام من الانتظار يظهر إنكيدو، فتبرز إليه المرأة وتكشف له عن مفاتنها. ينسى إنكيدو صحبه من ذوات الظلف والحافر ويقترب من المرأة ويلامسها وتلامسه، ثم يفيء إلى أحضانها ثلاثة أيام. وعندما يحاول القيام ليلحق بصحبه يجد أن ساقيه لم تعودا قويتين، وأنه غير قادر على الركض كالسابق، فيرجع إلى المرأة التي تبدأ تحدثه عن جلجامش وعن مدينة أوروك، وتقنعه بأنه لم يخلق لحياة البراري بل لحياة القصور، فيتوق إنكيدو للقاء جلجامش علَّه يحظى بصديق. ولكن كان عليه قبل ذلك أن يتحداه مظهراً قوته ونديته له. تقود المرأة إنكيدو إلى مساكن الرعاة، وهناك تلبسه الثياب وتعلمه أكل الخبز وشرب الخمر وأسلوب الحياة المدنية، وبعد فترة تنطلق به إلى أوروك.
وصل الاثنان إلى المدينة وهي في ذروة احتفال كبير، فابتهج الناس لرؤية إنكيدو وهتفوا: إنه ندٌ لجلجامش، سيدخلان في تنافس دائم وتستريح أوروك. وبينما جلجامش يخطو عتبة باب المعبد لأداء طقوس العيد، تصدى له إنكيدو في الساحة وتحداه، فدخل الاثنان في صراع اهتزت له جدران المعبد، وكانت الغلبة أخيراً لجلجامش الذي طرح خصمه أرضاً ومنع حركته. وهنا تهدأ ثورة جلجامش ويرخي قبضته عن غريمه ثم يستدير ماضياً في طريقه، فيناديه إنكيدو بكلمات تمتدح رجولته ومروءته، وتكون فاتحة صداقة عميقة بين الطرفين. ثم ما نلبث أن نجد إنكيدو مقيماً في القصر الملكي صديقاً وناصحاً للملك.
عقب لقائه بإنكيدو غيَّر جلجامش من سلوكه في الحكم والإدارة، وأرخى قبضته عن رعيته. وما نلبث أن نراه في حالة تأمل عميق في مسألة الحياة والموت، راغباً في الإقدام على فعل جليل يخلد ذكره عبر الأزمان بعد مماته. ثم يفضي بمكنون فؤاده إلى إنكيدو، ويطلعه على نيته في الشروع بمغامرة كبيرة تستهدف الوصول إلى غابة الأرْز في أقصى الغرب وقتل حارسها خمبابا، الذي أقامه هناك الإله إنليل وأوكله برعاية المكان وحمايته. يجزع إنكيدو لسماع ذلك، فهو رأى الوحش خمبابا عندما كان يطوف البراري مع القطعان وناله منه الخوف الشديد. رآه يزأر في الغابة كعاصفة الطوفان ومن فمه تندفع ألسنة اللهب، وأنفاسه تجلب الموت الزؤام عن مسافة بعيدة. وبعد نقاش ومداولة رضخ إنكيدو لرغبة جلجامش ومضى الاثنان إلى معبد ننسون للحصول على بركتها، فصلَّت ننسون إلى الإله شَمَشْ، حامي جلجامش، ودعته أن يحفظ ابنها وصديقه ويرجع بهما سالمين. وعند البوابة التي اجتازها البطلان في طريقهما خارج أوروك تجمع الناس لوداعهما، وأتى شيوخ أوروك لإسداء النصح لهما وتوصية إنكيدو بالسهر على سلامة صاحبه.
بعد رحلة مليئة بالمخاطر والأهوال، وصل الصديقان غابة الأرْز واقتحما بوابتها المسحورة التي سببت شللاً مؤقتاً لذراع إنكيدو، ثم أخذا يقطعان شجر الأرْز. وما لبث صوت خمبابا أن سُمع هادراً من أعماق الغابة يتساءل عن الذي تجرأ على اقتحام الغابة وقطع شجرها. انقض خمبابا على الغريبين دون مقدمات، ودارت بين الطرفين معركة حامية الوطيس، مالت في البداية لصالح خمبابا، ولكن الإله شمش أمدهما بثمانية أنواع من الرياح هبت في وجه الوحش وشلت حركته، فأمسكا به وقطعا رأسه فقدماه قرباناً لشمش.
عاد البطلان إلى أوروك وغسلا عنهما وعثاء السفر. وعندما أكمل جلجامش ارتداء لباسه الملكي، شخصت الإلهة عشتار إلى قامته الفارعة وهامت به حباً، وعرضت عليه الزواج منها معددة الهدايا والأعطيات التي ستمنحه إياها إذا قبل العرض. ولكن جلجامش رفض عرض عشتار مندداً بخياناتها المعروفة لعشاقها وأزواجها، وذلك بكلمات قاسية لاذعة جرحت كبرياء الإلهة. ثارت ثائرة عشتار وعرجت صاعدة إلى السماء العليا، فمثلت في حضرة كبير الآلهة آنو وشكت إليه إهانة جلجامش، طالبة أن يسلمها قياد ثور السماء، الكائن الوحشي المهول، لتهلك به جلجامش، وهددت أنها في حال الرفض سوف تحطم بوابات العالم الأسفل فيخرج الموتى ليأكلوا ويشربوا مع الأحياء وتعم المجاعة في الأرض. نزل آنو عند رغبة الإلهة الغاضبة وأسلمها قياد ثور السماء فأطلقته في مدينة أوروك يعيث فساداً فيها ويهلك المئات من أهلها. ولكن جلجامش وإنكيدو ما لبثا أن تصديا للثور، وبعد صراع مرير قتلاه وقدما قلبه قرباناً للإله شمش.
بعد هذا الحدث الجلل، عقد الآلهة اجتماعاً في السماء وقرروا أن يموت واحد من البطلين عقوبة لهما على قتل خمبابا وثور السماء، ووقع الخيار على إنكيدو. وقع إنكيدو فريسة الحمى بضعة عشر يوماً، ثم أسلم الروح بين ذراعي جلجامش الذي راح يدور حول صديقه المسجى كلبوة فقدت أشبالها وهو بين مصدق ومكذب يبكي ويقطع شعر رأسه. احتفظ جلجامش بجثة إنكيدو ثلاثة أيام رافضاً تسليمه للدفن عسى من بكائه عليه يفيق من غيبوبته، إلى أن سقطت دودة من أنف الجثة التي أخذت تتفسخ. عند ذلك صحا جلجامش من هذيانه وتأكدت له الحقيقة المرة. أقام لإنكيدو طقوس حدادٍ لائقة، ثم انسل من قصره وحيداً شريداً تطارده فكرة الموت. لقد تحول جزعه على صديقه إلى قلق على مصيره الشخصي وخوف من موته هو.
تطوح جلجامش في البراري يصطاد الحيوانات فيغتذي بلحومها ويقنص الآساد فيرتدي جلودها. وهدفه الوصول إلى الحكيم أوتنابشتيم، المخلوق الوحيد الذي أنعمت عليه الآلهة بالخلود وأسكنته مع زوجته في جزيرة نائية تقع خارج العالم المعروف، وتفصلها عنه مفازات لانهاية لها، وبحر يموج بمياه الموت. كان عازماً على الوصول إليه بأي ثمن ليسأله عن سر الحياة والموت، وكيف يستطيع الإنسان تحقيق الخلود لنفسه.
وصل جلجامش إلى سلسلة جبال ماشو التي تحرس ذراها الفوهة التي تنزل منها الشمس إلى باطن الأرض، لتسير مسارها الليلي قبل شروقها من الطرف الآخر. وهناك سهَّل له البشر العقارب الموكلون بتلك الجبال، عبور مسالكها، ودلوه على أقصر طريق يوصله إلى أوتنابشتيم. عبر جلجامش مسالك جبال ماشو ووصل فوهة الشمس فنزل فيها ليصل عبرها إلى الطرف الآخر من العالم. وفي عمل معجز لا يقدر عليه سوى إله، اجتاز ممر الشمس السفلي في أقل من ليلة واحدة، وخرج من الطرف الآخر ليجد نفسه على شاطئ البحر الذي يفصله عن جزيرة أوتنابشتيم. وهناك تقيم سيدوري ساقية حان الآلهة، حيث يتوقف الخالدون للراحة وتناول الشراب. فزعت سيدوري لرؤية ذلك العملاق الأشعث الأغبر الذي يرتدي جلود الأسود، فدخلت حانتها وأوصدت الباب. فناداها جلجامش معلناً عن هويته وقصده، فلما اطمأنت إليه وفتحت الباب قص عليها قصته وطلب معونتها. تصادف وصول جلجامش مع وجود ملاح أوتنابشتيم المدعو أورشنابي في المكان يحتطب من أجل سيده. فدلت سيدوري جلجامش على مكانه، وأخبرته بأنه الوحيد الذي يستطيع بقاربه عبور مياه الموت، وذلك بمعونة رُقُمٍ حجرية عليها طلاسم سحرية.
انطلق جلجامش كسهم مارق إلى حيث دلته سيدوري، وفي غمرة اضطرابه وهيجانه داس فوق الرُقُم الحجرية التي كان يضعها أورشنابي جانباً وهو يحتطب، فبعثرها وحطمها. فقال له أورشنابي، بعد أن كشف له جلجامش عن شخصيته وأخبره بقصته طالباً منه العون على حمله إلى أوتنابشتيم. فقال له أورشنابي بأن يديه قد حالتا دون عبوره لأنه كسر الرُقُم التي تعين المركب على اجتياز مياه الموت. وبعد تقليب الأمور على وجوهها، توصل أورشنابي إلى حل للمشكلة. فمياه الموت التي تبدأ حدودها بعد مسيرة طويلة في البحر، هي مياه راكدة والهواء فوقها ساكن، حيث لا ريح تدفع ولا مجذاف ينفع، وحيث الرذاذ الذي يتطاير يقتل باللمس. وقد ارتأى الملاَّح المجرب أن يعمدا إلى الدفع بالمردي، وهو مجذاف طويل يستخدم عن طريق ركز طرفه السفلي في قاع الماء لا عن طريق التجذيف العادي، فطلب من جلجامش أن يحتطب من الغابة مئة وعشرين مردياً طول الواحد منها ستين ذراعاً، ففعل جلجامش. أبحر الاثنان في المركب الذي قطع في ثلاثة أيام رحلة تستغرق في الزمان والمكان المعتاد مسيرة شهر ونصف. ثم ولج المركب في مياه الموت، حيث طلب أورشنابي من جلجامش أن يبدأ باستخدام المردي. وكان عليه أن يستعمل كل مردي لمرة واحدة فقط ثم يتركه بعد الدفع إلى الماء، لئلا تمس يده ما علق عليه من ماء قاتل.
وصل جلجامش إلى أوتنابشتيم وقص عليه قصته وما جرى له، ورجاه أن يخبره كيف استطاع تحقيق الخلود لنفسه من دون بني البشر. فقص عليه أوتنابشتيم قصة الطوفان العظيم بجميع تفاصيلها وكيف انتهت إلى مكافأته بنعمة الخلود. فقد قرر الآلهة إرسال طوفان على الأرض يفني كل نسمة حية، وحددوا لذلك موعداً. ولكن الإله إيا الذي حضر الاجتماع وعرف القرار، نقل إلى الحكيم أوتنابشتيم ملك، مدينة شوريباك، قرار الآلهة وأمره ببناء سفينة عملاقة، يحمل فيها أهله ونخبة من أصحاب الحرف وأزواجاً من حيوانات البرية ووحوشها، ففعل أوتنابشتيم. وعندما أزفت الساعة وانداح الطوفان، أبحر أوتنابشتيم بسفينته وأغلق منافذها. دامت عاصفة الطوفان ستة أيام والمركب العملاق تتقاذفه الأمواج، حتى رسا في اليوم السابع على قمة جبل يدعى نصير. فتح أوتنابشتيم كوة وتطلع حدود الأفق، كان الهدوء شاملاً والبشر قد آلوا إلى الطين، فخرج وأطلق ركاب السفينة، وقدم بعض حيواناته قرباناً للآلهة. حضر الآلهة مسرعين لنداء نار القربان وقد تملكهم الندم على ما فعلوا، وعندما رأوا ما فعله أوتنابشتيم وكيف أنقذ بذرة الحياة على الأرض، فرحوا لذلك وقام إنليل بإسباغ نعمة الخلود على أوتنابشتيم وزوجته مكافأة له على صنيعه، وأسكنهما في هذه الجزيرة. ثم ينهي بطل الطوفان قصته بالقول إلى جلجامش: والآن يا جلجامش، من سيدعو مجلس الآلهة إلى الاجتماع من أجلك، فتجد الحياة التي تبحث عنها؟
بعد ذلك دعا أوتنابشتيم جلجامش إلى اختبار عسير يثبت من خلاله استعداده ومقدرته على قهر الموت الأكبر بقهر الموت الأصغر وهو النوم. فكان عليه أن يجلس في وضعية القعود ستة أيام وسبع ليال دون أن يطرق الكرى أجفانه. قعد جلجامش قابلاً تحدي أوتنابشتيم مصمماً على قهر النوم، ولكنه بعد وقت قصير غرق في سبات عميق استمر ستة أيام. وفي اليوم السابع هزه أوتنابشتيم فأفاق معتقداً أنه لم ينم إلا هنيهة. وعندما عرف حقيقة ما وقع له وتأكد من فشله في الاختبار، استعد لمغادرة الجزيرة ومعه أورشنابي الذي أمره أوتنابشتيم بمغادرة المكان دون رجعة، ومرافقة جلجامش إلى أوروك.
وبينما هما يدفعان المركب بعيداً عن الشاطئ، شعرت زوجة أوتنابشتيم بالشفقة على جلجامش وهي تراه يعود خالي الوفاض بعد رحلته المستحيلة إليهم، واقترحت على زوجها أن يقدم له بعضاً مما قدم لأجله. نادى أوتنابشتيم جلجامش وأطلعه على سر نبتة شوكية تعيش في أعماق المياه الباطنية؛ مسكن الإله إنكي، وتحمل خصيصة تجديد شباب من يأكل منها إذا بلغ الشيخوخة. غاص جلجامش في القناة المائية التي تصل إلى الآبسو، مجمع المياه السفلية العذبة، رابطاً إلى قدميه حجراً ثقيلاً يشده نحو الأسفل، وهناك رأى النبتة فاجتثها بعد أن أدمت أشواكها يديه، ثم حل وثاقه صاعداً نحو الأعلى، وهناك عرضها أمام أوتنابشتيم وزوجته شاكراً، وقال لهما إنه سيحملها معه إلى أوروك ليجعل الشيوخ يقتسمونها فيما بينهم، وإنه سيأكل منها أيضاً عندما يكبر.
انطلق الاثنان في طريق العودة الطويل. وفي إحدى المحطات التي توقفا عندها للراحة، رأى جلجامش بركة ماء بارد فنزل إليها واستحم بمائها تاركاً النبتة عند الضفة. فانسلت حية إلى النبتة وأكلتها؛ وبينما هي راجعة إلى وكرها تجدد جلدها. جلس جلجامش عند الضفة وقد انهار تماماً بعد أن فقد حتى الأمل في تجديد الشباب، وقال لأورشنابي وهو يبكي بكاءً مراً: «لمن أضنيت يا أورشنابي يديَّ، ولمن بذلت دماء قلبي؟ لم أجن لنفسي نعمة ما، بل لحية التراب جنيت النعمة». يتابع الاثنان طريقهما دون أن يعطينا النص أيّ تفاصيل مهمة عن رحلة العودة. وعندما يصلان أوروك، يشير جلجامش إلى سور أوروك الذي بناه قائلاً لأورشنابي «أي أورشنابي، أعْلُ سور أوروك إمش عليه، إلمس قاعدته، تفحص صنعة آجره. أليست لبناته من آجر مشوي، والحكماء السبعة من أرسى له الأساس». وعند هذه الأبيات التي تكرر ما ورد في بداية النص، تنتهي الملحمة، ويختم الكاتب أحداثه بمثل ما بدأها من وصف أوروك.
وسوف نخصص الحلقة القادمة من هذه السلسلة لبسط معنى النص ورسالته ومراميه
مـلـحـمــة جـلـجــــــامش 2- معنى النص ورسالته
مـلـحـمــة جـلـجــــــامش
2- معنى النص ورسالته
بعد أن قدمت في الحلقة الماضية نبذة مختصرة ولكنها وافية عن سيرة جلجامش كما روتها الملحمة البابلية، سأتفرغ في هذه الحلقة لإلقاء الضوء على معاني الملحمة ورسالتها، وذلك من خلال رصد ثلاث مراحل لتطور شخصية البطل فيها، مقدماً وجهة نظر شخصية بنيتها من خلال عشرين سنة من الاهتمام بهذا النص العظيم ومحاولة فهم مضامينه ومراميه.
1- الطور الأول- الفردية والحرية المطلقة:
كان جلجامش فرداً حراً في مجتمع من العبيد. كان ملكاً مطلق السلطان، أقوى الرجال جسداً وأكثرهم ملاحة وذكاءً، مفعماً بالحيوية والنشاط الدائب. لم يكن الملك الشاب يعرف ماذا يفعل بحريته المطلقة وتكوينه الجسدي الخارق. رفع سور مدينته أوروك وهي أول مدينة حقيقية في تاريخ الحضارة، وبنى وأشاد، فلم يقنع ولم يرض. طغى وبغى، لا طغيان الأحمق ولا بغي الجاهل الفرح بالسلطان، بل طغيان قدرة متفوقة لم تعرف بعد سبيلها الصحيح.
بعد أن استجاب الآلهة لضراعة أهل أوروك واستمعوا لشكواهم من جبروت الملك، قامت أرورو، خالقة الجنس البشري، بخلق إنكيدو من قبضة من طين رمتها في الفلاة، ليشب نداً لجلجامش يعادله قوة، ليدخلا في منافسة دائمة تصرف ذهن جلجامش عن رعيته. عندما سمع جلجامش بخبر الرجل الوحش الذي يركض مع قطعان الفلاة ويرد معهم مورد الماء، أرسل كاهنة حب من معبد عشتار فأنَّسته وألبسته وقادته إلى مساكن الرعاة حيث تعلم أكل الخبز وشرب الجعة. وهناك حدثته عن جلجامش فتاق إلى لقائه.
في مناطق الرعاة وجد إنكيدو مضموناً لحريته السابقة التي مارسها وهو ينطلق دون قيد مع القطعان البرية. لقد كان إنكيدو في براريه مطلق الحرية مثل جلجامش، ولكن حريته لم تكن مستمدة من سلطته على بقية الناس، بل من حياة الطبيعة التي لا تعرف أخلاق الحضارة وشرعتها. وعندما واجه الآخرين في مناطق الرعاة، لم ير في قوته الخارقة وسيلة للتسلط عليهم. بل لقد سخرها لصالح الجماعة، عندما راح يحرس قطعان الماشية ويطارد الأسود ليكفي الرعاة شرها. وعندما التقى برجل قادم من أوروك وسمع منه عن مباذل جلجامش، وكيف يطأ العروس قبل زوجها في الليلة الأولى، ازداد عزماً على لقائه، فقادته المرأة إلى أوروك، حيث تحدى جلجامش إلى المصارعة، وبعد عدة جولات اهتزت لها الجدران تمكن جلجامش من إنكيدو بعد أن أوقعه أرضاً. وهنا هدأت سورة الغضب عند جلجامش فترك خصمه ومضى، غير أن إنكيدو ناداه بكلمات وقعت في نفسه حسناً، وكانت فاتحة صداقة ومحبة دائمة بين الطرفين.
2- الطور الثاني- الالتزام:
صحت توقعات أهل أوروك، فقد تراخت قبضة جلجامش عن رعيته بعد لقائه بإنكيدو، ولكن لا لأنهما دخلا في تنافس دائم، بل لأن صداقة إنكيدو كانت ذات تأثير حاسم على جلجامش، والحب الذي نشأ بينهما قد أخذ بتوجيه طاقاته المتخبطة نحو أهداف نبيلة. لم يعد جلجامش الفرد الحر الوحيد بين جماعة من المسلوبين، بعد أن ظهر أمامه رجل حر آخر، تعلَّم من تعامله معه كيف يحترم حرية الآخرين، وأدرك أن الحرية الفردية لا معنى لها إذا لم تتعاون مع حرية أولئك الآخرين وتتحدد من خلالها.
ومع تلاشي أحلام الحرية المطلقة، أتى وعي مسألة الموت والتفكير فيه. نقرأ في النص السومري:
في مدينتي يموت الرجل كسير القلب،
يفنى الرجل حزين الفؤاد.
أنظرُ من فوق السور،
فأرى الأجسام الميتة طافية في النهر،
وأراني سأغدو مثلها حقاً.
فالإنسان مهما علا، لن يبلغ السماء، طولاً،
ومها اتسع لن يغطي الأرض عرضاً.
ونقرأ في النص البابلي:
من تُرى يا صديقي يرقى إلى السماء؟
الآلهة هم الخالدون في مرتع الإله شَمَشْ؟
أما البشر فأيامهم معدودة على هذه الأرض،
وقبض الريح كل ما يفعلون.
تبدو هنا نظرة جلجامش إلى الموت نظرة متأمل يبحث عن معنى الحياة القصيرة التي يعيشها الإنسان؛ وهو مدرك للشرط الإنساني قابل به، باحث من خلاله عن جدوى الفعل الإنساني، وعن مضمون للحرية، فيجده في الأعمال الجليلة التي تخلّد اسم صاحبها وتترك له اسماً باقياً على مر الأزمان. وفي إحدى الليالي، وبينما هما في القصر يتجاذبان أطراف الحديث فاجأ جلجامش إنكيدو بمشروعه للسفر إلى غابة الأرز البعيدة لاحتطاب الشجر منها وقتل حارسها، الوحش المخيف حواوا، وهو عمل سيترك له اسماً باقياً على مر الأزمان. نقرأ في النص السومري:
سأدخل أرض الأحياء وأخلّد لنفسي اسماً هناك.
في الأماكن التي رُفعت فيها الأسماء سأرفع اسمي،
وفي الأماكن التي لم تُرفع فيها الأسماء سأرفع أسماء الآلهة.
ونقرأ في النص البابلي:
سأمضي أمامك،
ولينادني صوتك أن تقدم ولا تخف.
فإذا سقطت أصنع لنفسي شهرة:
«لقد سقط جلجامش، صرعه حواوا الرهيب».
وإذا نجحت سأقطع أشجار الأرز،
وأنقش لنفسي اسماً خالداً.
ولكن هذا العمل البطولي هو في الوقت نفسه التزام أخلاقي، لأن الصراع المقبل مع وحش الغابة هو صراع ضد قوى الشر. نقرأ في النص البابلي:
في الغابة، هناك يعيش حواوا الرهيب.
هيا أنا وأنت نقتله،
هيا نمسح الشر عن وجه الأرض.
في مغامرتهما الأولى هذه، يتقدم البطلان تحت رعاية الإله شَمَشْ، إله الشمس والعدالة، نحو غابة الأرز البعيدة، التي يصفها النص بأنها مقام عشتار المقدس ومقر عرشها، لقتل حارسها الذي عينه لحمايتها الإله إنليل رب العاصفة المدمرة. وهذه أول سابقة مدونة في تاريخ الإنسانية، يضع فيها الإنسان إرادته في مقابل إرادة الآلهة، ويمتحن قوته تجاهها. لقد كان عبد خوفه من المجهول، يرى في كل ما حوله ظاهرة مقدسة تخفي وراءها قوة إلهية أو شيطانية طاغية؛ أما الآن وبعد ابتداء الأوديسة الجلجامشية، فقد تم تحييد الطبيعة وإعطاؤها ماهية مادية منفعلة قابلة لاقتحام عقل الإنسان وفهمه وتحليله. لقد اكتشف العقل إلى الأبد تميزه عن المادة وفاعليته فيها، وهو لن يرى بعد الآن فيما حوله سراً مستغلقاً، بل سراً مؤجلاً فهمه.
غادر جلجامش أوروك بصبحة إنكيدو، بعد حصوله على بركة شيوخ المدينة الذين خرجوا لتوديعه. فجلجامش لم يعد الآن ذلك الحاكم الذي يرهبه الناس ويخشون بطشه، بل الحَكَم العادل المحبوب الذي يحزن الشعب لغيابه ويدعو له بعودة سالمة سريعة. وبعد رحلة مليئة بالمخاطر، ومواجهة مرعبة مع حواوا انتهت بقطع رأسه، عاد جلجامش وإنكيدو إلى أوروك بعد أن طبقت شهرتهما الآفاق. فرأته الإلهة عشتار وقد جللته هيبة النصر، فتاقت إلى وصاله وعرضت عليه الزواج منها:
تعال يا جلجامش وكن عريسي.
سآمر لك بعربة من لازورد وذهب،
ومحوطاً بشذى الأرْز تدخل بيتنا.
ستقبّل المنصة قدميك والعتبة،
وينحني لك الملوك والحكام والأمراء،
يضعون غلة السهل والجبل أمامك.
وهنا تظهر ثقة جلجامش الإنسانية بنفسه في أقوى أشكالها. وهاهو يرفض عرض عشتار بعد أن اقتحم مقر عرشها في غابة الأرز، ثم لا يكتفي بذلك وإنما يشرع في إهانتها وتعداد مثالبها:
ما هو نصيبي منك إذا تزوجتك؟
ما أنت إلا موقد تخمد ناره عند البرد.
باب متصدع لا يحمي من ريح أو عاصفة.
حفرة يُخفي غطاؤها كل غدر.
قار يلوث ناقله.
قربة تبلل حاملها.
صندل يزل به منتعله.
أي حبيب أخلصت له إلى الأبد؟
ثارت ثائرة عشتار وعرجت إلى أبيها كبير الآلهة آنو، الذي يقيم في السماء السابعة، وشكت إليه إهانة جلجامش، وطلبت منه أن يسلهما قياد ثور السماء لتهلك به جلجامش. فوافق آنو على طلبها بعد تردد، وأعطاها الثور الذي راح يعيث في المدينة فساداً ويقتل في طريقه مئات الناس. ولكن جلجامش وإنكيدو تصديا للثور فقتلاه وانتزعا قلبه وقدماه قرباناً للإله شَمَشْ. عند هذا الحد يبلغ الحنق بعشتار أقصى درجاته فتصعد أسوار أوروك صارخة مولولة: «ويل لجلجامش. قد مرغني بالتراب من قتل ثور السماء». وهنا تنال عشتار الإهانة الثانية. فمنذ قليل وجه إليها جلجامش تقريعاً أدبياً صبه في كلمات منمقة؛ أما إنكيدو رجل البراري الذي لا يعرف صياغة الكلمات الأدبية، فقد انتزع فخذ الثور ورماه في وجه الإلهة قائلاً: «لو استطعت الإمساك بك، لنالك مني مثل ما ناله». ونحن في الواقع لا نكاد نعثر في تاريخ الأفكار الإنسانية على موقف شبيه، بلغ فيه الإنسان حداً من الثقة بنفسه جعله يتجاوز كل حدود فاصلة بين عالم البشر وعالم الآلهة.
جاء رد الآلهة سريعاً، فتحركوا لإعادة التوازن بين عالم الآلهة وعالم البشر، وعقدوا اجتماعاً قرروا فيه إنزال العقوبة بالبطلين. فإنكيدو يجب أن يموت، وجلجامش سيُفجع بصديقه ويصرف بقية عمره في حزن عليه. يرقد إنكيدو في فراش المرض يعاني سكرات الموت، وهو يراجع شريط حياته نادماً على تركه حياة البرية، لاعناً المرأة التي غيرت حياته السابقة وقادته إلى المدينة. ولكن الإله شَمَشْ الذي لم يستطع رد حكم مجمع الآلهة، ناداه من السماء قائلاً: «لماذا يا إنكيدو تلعن المرأة التي علمتك أكل الخبز طعام الآلهة، وشرب الخمر شراب الملوك، والتي كستك ثياباً فاخرة، وأعطتك جلجامش الرائع صديقاً؟ فالآن هو أخ لك. لقد جعلك تستريح إلى أريكة الشرف، حيث يقبّل ملوك الأرض قدميك، وغداً سيجعل أهل أوروك يندبون موتك، ومن بعدك هو نفسه سوف يطلق شعره ويكسو جسده بجلد الأسد هائماً في الصحارى».
لدى سماعه كلمات شَمَشْ هدأ فؤاد إنكيدو، وحول لعناته السابقة إلى بركات. لقد فهم خطاب شَمَشْ واطمأن إليه. فالحياة رغم قصرها حافلة بما هو نبيل وعظيم. والإنسان قادر على تفجير لحظاتها والإمساك بعنان زمنها المنطلق نحو الأمام، لا لإيقافه أو امتطائه إلى الأبد، بل لترويضه واستنفاذ مكمناته. فمعنى الحياة كامن فينا لا في خارجنا، فيما نستطيع فعله خلالها، وفيما يستطيع الآخرون انطلقاً مما انتهينا. ففي الحضارة يكمن رد الإنسان على الموت. لقد ماتت ملايين الملايين من الحيوانات منذ ظهور الحياة على الأرض، دون أن تترك وراءها أثراً يدل عليها سوى بعض مستحاثاتها؛ أما الإنسان فقد صنع الحضارة وهو مستمر في صنعها ماضٍ في المعرفة واكتساب الحكمة والتعمق في أسرار الكون. لقد انتقل إنكيدو من حياة البرية إلى المدينة، حيث عاش حياة مفعمة؛ وهو مستعد الآن للموت غير آسف، لأنه عاش منجزات الحضارة وساهم في صنعها، وخَبِرَ التعاطف مع الجماعة، الذي يجعل للحياة طعماً وجدوى. لذلك يقول لجلجامش قبل أن تفارقه الروح: «مبارك يا صديقي من في ساح الشرف يموت، ولكن هاأنذا في خزي أموت».
عندما تأكد جلجامش أن إنكيدو مائت لا محالة، أخذ يندبه بصوت متهدج:
أي إنكيدو، إن أمك لغزالة،
وأبوك الذي أنجبك حمار وحش.
مع ذوات الذيل قد نشأت،
ومع حيوانات الفلاة والمراعي.
لتبك عليك المسالك الصاعدة غابة الأرز،
بلا توقف ليل نهار لتبك عليك.
ليبك عليك شيوخ أوروك الفسيحة المنيعة،
فتردد البراري صوت نواحهم كنوح أمك.
ليبك عليك الدب والضبع والفهد،
النمر والأيل والأسد والثور والغزال والوعل،
كل وحوش الفلاة لتبك عليك.
ليبك عليك نهر الفرات الذي زرعنا حوافه،
وملأنا من مياهه القُرب.
ليبك عليك شباب أوروك الفسيحة المنيعة،
حيث قتلنا ثور السماء،
شباب أوروك فليبكوا عليك.
وعندما هدأت حركة إنكيدو صاح جلجامش بصوت ترددت أصداؤه في جنبات المدينة:
أنصتوا إليّ يا شيوخ أوروك، اسمعوني.
إني أبكي صديقي إنكيدو،
أبكي بحرقة النساء الندابات.
كان البلطة إلى جنبي والقوس في يدي،
المدية في حزامي والترس الذي أمامي،
حِلّة عيدي، فرحي الوحيد.
يا صديقي، يا أخي الصغير.
يا من سابق حمار وحش البراري وفهد الفلاة.
لقد ذللنا معاً الصعاب، وارتقينا الجبال.
أمسكنا بثور السماء وقضينا عليه.
صرعنا حواوا ساكن غابة الأرز.
فأي نوم هبط عليك،
فغبتَ في ظلام لا تسمع كلماتي؟
وضع يده على قلبه فلم يسمع له نبضاً،
فرمى عليه وشاحاً كوشاح العروس،
ورفع صوته بصراخ مثل زئير الأسد.
وكلبوة سُلبت أشبالها،
صار يروح ويجيء أمام السرير.
يقطع بيديه شعر رأسه ويلقيه أرضاً،
يمزق عنه ثيابه النقية ويطرحها كأنها نجسة.
لم يصدق جلجامش موت إنكيدو؛ بقي إلى جانبه ستة أيام وسبع ليال، ولم يسلمه إلى الدفن حتى وقع الدود من أنفه. وهنا تنهار عوالم جلجامش القديمة برمتها، ويتحول الواقع إلى ركام مختلط الأشكال والألوان، ويبدأ رحلته الكبرى في البحث عن المستحيل.
2- معنى النص ورسالته
بعد أن قدمت في الحلقة الماضية نبذة مختصرة ولكنها وافية عن سيرة جلجامش كما روتها الملحمة البابلية، سأتفرغ في هذه الحلقة لإلقاء الضوء على معاني الملحمة ورسالتها، وذلك من خلال رصد ثلاث مراحل لتطور شخصية البطل فيها، مقدماً وجهة نظر شخصية بنيتها من خلال عشرين سنة من الاهتمام بهذا النص العظيم ومحاولة فهم مضامينه ومراميه.
1- الطور الأول- الفردية والحرية المطلقة:
كان جلجامش فرداً حراً في مجتمع من العبيد. كان ملكاً مطلق السلطان، أقوى الرجال جسداً وأكثرهم ملاحة وذكاءً، مفعماً بالحيوية والنشاط الدائب. لم يكن الملك الشاب يعرف ماذا يفعل بحريته المطلقة وتكوينه الجسدي الخارق. رفع سور مدينته أوروك وهي أول مدينة حقيقية في تاريخ الحضارة، وبنى وأشاد، فلم يقنع ولم يرض. طغى وبغى، لا طغيان الأحمق ولا بغي الجاهل الفرح بالسلطان، بل طغيان قدرة متفوقة لم تعرف بعد سبيلها الصحيح.
بعد أن استجاب الآلهة لضراعة أهل أوروك واستمعوا لشكواهم من جبروت الملك، قامت أرورو، خالقة الجنس البشري، بخلق إنكيدو من قبضة من طين رمتها في الفلاة، ليشب نداً لجلجامش يعادله قوة، ليدخلا في منافسة دائمة تصرف ذهن جلجامش عن رعيته. عندما سمع جلجامش بخبر الرجل الوحش الذي يركض مع قطعان الفلاة ويرد معهم مورد الماء، أرسل كاهنة حب من معبد عشتار فأنَّسته وألبسته وقادته إلى مساكن الرعاة حيث تعلم أكل الخبز وشرب الجعة. وهناك حدثته عن جلجامش فتاق إلى لقائه.
في مناطق الرعاة وجد إنكيدو مضموناً لحريته السابقة التي مارسها وهو ينطلق دون قيد مع القطعان البرية. لقد كان إنكيدو في براريه مطلق الحرية مثل جلجامش، ولكن حريته لم تكن مستمدة من سلطته على بقية الناس، بل من حياة الطبيعة التي لا تعرف أخلاق الحضارة وشرعتها. وعندما واجه الآخرين في مناطق الرعاة، لم ير في قوته الخارقة وسيلة للتسلط عليهم. بل لقد سخرها لصالح الجماعة، عندما راح يحرس قطعان الماشية ويطارد الأسود ليكفي الرعاة شرها. وعندما التقى برجل قادم من أوروك وسمع منه عن مباذل جلجامش، وكيف يطأ العروس قبل زوجها في الليلة الأولى، ازداد عزماً على لقائه، فقادته المرأة إلى أوروك، حيث تحدى جلجامش إلى المصارعة، وبعد عدة جولات اهتزت لها الجدران تمكن جلجامش من إنكيدو بعد أن أوقعه أرضاً. وهنا هدأت سورة الغضب عند جلجامش فترك خصمه ومضى، غير أن إنكيدو ناداه بكلمات وقعت في نفسه حسناً، وكانت فاتحة صداقة ومحبة دائمة بين الطرفين.
2- الطور الثاني- الالتزام:
صحت توقعات أهل أوروك، فقد تراخت قبضة جلجامش عن رعيته بعد لقائه بإنكيدو، ولكن لا لأنهما دخلا في تنافس دائم، بل لأن صداقة إنكيدو كانت ذات تأثير حاسم على جلجامش، والحب الذي نشأ بينهما قد أخذ بتوجيه طاقاته المتخبطة نحو أهداف نبيلة. لم يعد جلجامش الفرد الحر الوحيد بين جماعة من المسلوبين، بعد أن ظهر أمامه رجل حر آخر، تعلَّم من تعامله معه كيف يحترم حرية الآخرين، وأدرك أن الحرية الفردية لا معنى لها إذا لم تتعاون مع حرية أولئك الآخرين وتتحدد من خلالها.
ومع تلاشي أحلام الحرية المطلقة، أتى وعي مسألة الموت والتفكير فيه. نقرأ في النص السومري:
في مدينتي يموت الرجل كسير القلب،
يفنى الرجل حزين الفؤاد.
أنظرُ من فوق السور،
فأرى الأجسام الميتة طافية في النهر،
وأراني سأغدو مثلها حقاً.
فالإنسان مهما علا، لن يبلغ السماء، طولاً،
ومها اتسع لن يغطي الأرض عرضاً.
ونقرأ في النص البابلي:
من تُرى يا صديقي يرقى إلى السماء؟
الآلهة هم الخالدون في مرتع الإله شَمَشْ؟
أما البشر فأيامهم معدودة على هذه الأرض،
وقبض الريح كل ما يفعلون.
تبدو هنا نظرة جلجامش إلى الموت نظرة متأمل يبحث عن معنى الحياة القصيرة التي يعيشها الإنسان؛ وهو مدرك للشرط الإنساني قابل به، باحث من خلاله عن جدوى الفعل الإنساني، وعن مضمون للحرية، فيجده في الأعمال الجليلة التي تخلّد اسم صاحبها وتترك له اسماً باقياً على مر الأزمان. وفي إحدى الليالي، وبينما هما في القصر يتجاذبان أطراف الحديث فاجأ جلجامش إنكيدو بمشروعه للسفر إلى غابة الأرز البعيدة لاحتطاب الشجر منها وقتل حارسها، الوحش المخيف حواوا، وهو عمل سيترك له اسماً باقياً على مر الأزمان. نقرأ في النص السومري:
سأدخل أرض الأحياء وأخلّد لنفسي اسماً هناك.
في الأماكن التي رُفعت فيها الأسماء سأرفع اسمي،
وفي الأماكن التي لم تُرفع فيها الأسماء سأرفع أسماء الآلهة.
ونقرأ في النص البابلي:
سأمضي أمامك،
ولينادني صوتك أن تقدم ولا تخف.
فإذا سقطت أصنع لنفسي شهرة:
«لقد سقط جلجامش، صرعه حواوا الرهيب».
وإذا نجحت سأقطع أشجار الأرز،
وأنقش لنفسي اسماً خالداً.
ولكن هذا العمل البطولي هو في الوقت نفسه التزام أخلاقي، لأن الصراع المقبل مع وحش الغابة هو صراع ضد قوى الشر. نقرأ في النص البابلي:
في الغابة، هناك يعيش حواوا الرهيب.
هيا أنا وأنت نقتله،
هيا نمسح الشر عن وجه الأرض.
في مغامرتهما الأولى هذه، يتقدم البطلان تحت رعاية الإله شَمَشْ، إله الشمس والعدالة، نحو غابة الأرز البعيدة، التي يصفها النص بأنها مقام عشتار المقدس ومقر عرشها، لقتل حارسها الذي عينه لحمايتها الإله إنليل رب العاصفة المدمرة. وهذه أول سابقة مدونة في تاريخ الإنسانية، يضع فيها الإنسان إرادته في مقابل إرادة الآلهة، ويمتحن قوته تجاهها. لقد كان عبد خوفه من المجهول، يرى في كل ما حوله ظاهرة مقدسة تخفي وراءها قوة إلهية أو شيطانية طاغية؛ أما الآن وبعد ابتداء الأوديسة الجلجامشية، فقد تم تحييد الطبيعة وإعطاؤها ماهية مادية منفعلة قابلة لاقتحام عقل الإنسان وفهمه وتحليله. لقد اكتشف العقل إلى الأبد تميزه عن المادة وفاعليته فيها، وهو لن يرى بعد الآن فيما حوله سراً مستغلقاً، بل سراً مؤجلاً فهمه.
غادر جلجامش أوروك بصبحة إنكيدو، بعد حصوله على بركة شيوخ المدينة الذين خرجوا لتوديعه. فجلجامش لم يعد الآن ذلك الحاكم الذي يرهبه الناس ويخشون بطشه، بل الحَكَم العادل المحبوب الذي يحزن الشعب لغيابه ويدعو له بعودة سالمة سريعة. وبعد رحلة مليئة بالمخاطر، ومواجهة مرعبة مع حواوا انتهت بقطع رأسه، عاد جلجامش وإنكيدو إلى أوروك بعد أن طبقت شهرتهما الآفاق. فرأته الإلهة عشتار وقد جللته هيبة النصر، فتاقت إلى وصاله وعرضت عليه الزواج منها:
تعال يا جلجامش وكن عريسي.
سآمر لك بعربة من لازورد وذهب،
ومحوطاً بشذى الأرْز تدخل بيتنا.
ستقبّل المنصة قدميك والعتبة،
وينحني لك الملوك والحكام والأمراء،
يضعون غلة السهل والجبل أمامك.
وهنا تظهر ثقة جلجامش الإنسانية بنفسه في أقوى أشكالها. وهاهو يرفض عرض عشتار بعد أن اقتحم مقر عرشها في غابة الأرز، ثم لا يكتفي بذلك وإنما يشرع في إهانتها وتعداد مثالبها:
ما هو نصيبي منك إذا تزوجتك؟
ما أنت إلا موقد تخمد ناره عند البرد.
باب متصدع لا يحمي من ريح أو عاصفة.
حفرة يُخفي غطاؤها كل غدر.
قار يلوث ناقله.
قربة تبلل حاملها.
صندل يزل به منتعله.
أي حبيب أخلصت له إلى الأبد؟
ثارت ثائرة عشتار وعرجت إلى أبيها كبير الآلهة آنو، الذي يقيم في السماء السابعة، وشكت إليه إهانة جلجامش، وطلبت منه أن يسلهما قياد ثور السماء لتهلك به جلجامش. فوافق آنو على طلبها بعد تردد، وأعطاها الثور الذي راح يعيث في المدينة فساداً ويقتل في طريقه مئات الناس. ولكن جلجامش وإنكيدو تصديا للثور فقتلاه وانتزعا قلبه وقدماه قرباناً للإله شَمَشْ. عند هذا الحد يبلغ الحنق بعشتار أقصى درجاته فتصعد أسوار أوروك صارخة مولولة: «ويل لجلجامش. قد مرغني بالتراب من قتل ثور السماء». وهنا تنال عشتار الإهانة الثانية. فمنذ قليل وجه إليها جلجامش تقريعاً أدبياً صبه في كلمات منمقة؛ أما إنكيدو رجل البراري الذي لا يعرف صياغة الكلمات الأدبية، فقد انتزع فخذ الثور ورماه في وجه الإلهة قائلاً: «لو استطعت الإمساك بك، لنالك مني مثل ما ناله». ونحن في الواقع لا نكاد نعثر في تاريخ الأفكار الإنسانية على موقف شبيه، بلغ فيه الإنسان حداً من الثقة بنفسه جعله يتجاوز كل حدود فاصلة بين عالم البشر وعالم الآلهة.
جاء رد الآلهة سريعاً، فتحركوا لإعادة التوازن بين عالم الآلهة وعالم البشر، وعقدوا اجتماعاً قرروا فيه إنزال العقوبة بالبطلين. فإنكيدو يجب أن يموت، وجلجامش سيُفجع بصديقه ويصرف بقية عمره في حزن عليه. يرقد إنكيدو في فراش المرض يعاني سكرات الموت، وهو يراجع شريط حياته نادماً على تركه حياة البرية، لاعناً المرأة التي غيرت حياته السابقة وقادته إلى المدينة. ولكن الإله شَمَشْ الذي لم يستطع رد حكم مجمع الآلهة، ناداه من السماء قائلاً: «لماذا يا إنكيدو تلعن المرأة التي علمتك أكل الخبز طعام الآلهة، وشرب الخمر شراب الملوك، والتي كستك ثياباً فاخرة، وأعطتك جلجامش الرائع صديقاً؟ فالآن هو أخ لك. لقد جعلك تستريح إلى أريكة الشرف، حيث يقبّل ملوك الأرض قدميك، وغداً سيجعل أهل أوروك يندبون موتك، ومن بعدك هو نفسه سوف يطلق شعره ويكسو جسده بجلد الأسد هائماً في الصحارى».
لدى سماعه كلمات شَمَشْ هدأ فؤاد إنكيدو، وحول لعناته السابقة إلى بركات. لقد فهم خطاب شَمَشْ واطمأن إليه. فالحياة رغم قصرها حافلة بما هو نبيل وعظيم. والإنسان قادر على تفجير لحظاتها والإمساك بعنان زمنها المنطلق نحو الأمام، لا لإيقافه أو امتطائه إلى الأبد، بل لترويضه واستنفاذ مكمناته. فمعنى الحياة كامن فينا لا في خارجنا، فيما نستطيع فعله خلالها، وفيما يستطيع الآخرون انطلقاً مما انتهينا. ففي الحضارة يكمن رد الإنسان على الموت. لقد ماتت ملايين الملايين من الحيوانات منذ ظهور الحياة على الأرض، دون أن تترك وراءها أثراً يدل عليها سوى بعض مستحاثاتها؛ أما الإنسان فقد صنع الحضارة وهو مستمر في صنعها ماضٍ في المعرفة واكتساب الحكمة والتعمق في أسرار الكون. لقد انتقل إنكيدو من حياة البرية إلى المدينة، حيث عاش حياة مفعمة؛ وهو مستعد الآن للموت غير آسف، لأنه عاش منجزات الحضارة وساهم في صنعها، وخَبِرَ التعاطف مع الجماعة، الذي يجعل للحياة طعماً وجدوى. لذلك يقول لجلجامش قبل أن تفارقه الروح: «مبارك يا صديقي من في ساح الشرف يموت، ولكن هاأنذا في خزي أموت».
عندما تأكد جلجامش أن إنكيدو مائت لا محالة، أخذ يندبه بصوت متهدج:
أي إنكيدو، إن أمك لغزالة،
وأبوك الذي أنجبك حمار وحش.
مع ذوات الذيل قد نشأت،
ومع حيوانات الفلاة والمراعي.
لتبك عليك المسالك الصاعدة غابة الأرز،
بلا توقف ليل نهار لتبك عليك.
ليبك عليك شيوخ أوروك الفسيحة المنيعة،
فتردد البراري صوت نواحهم كنوح أمك.
ليبك عليك الدب والضبع والفهد،
النمر والأيل والأسد والثور والغزال والوعل،
كل وحوش الفلاة لتبك عليك.
ليبك عليك نهر الفرات الذي زرعنا حوافه،
وملأنا من مياهه القُرب.
ليبك عليك شباب أوروك الفسيحة المنيعة،
حيث قتلنا ثور السماء،
شباب أوروك فليبكوا عليك.
وعندما هدأت حركة إنكيدو صاح جلجامش بصوت ترددت أصداؤه في جنبات المدينة:
أنصتوا إليّ يا شيوخ أوروك، اسمعوني.
إني أبكي صديقي إنكيدو،
أبكي بحرقة النساء الندابات.
كان البلطة إلى جنبي والقوس في يدي،
المدية في حزامي والترس الذي أمامي،
حِلّة عيدي، فرحي الوحيد.
يا صديقي، يا أخي الصغير.
يا من سابق حمار وحش البراري وفهد الفلاة.
لقد ذللنا معاً الصعاب، وارتقينا الجبال.
أمسكنا بثور السماء وقضينا عليه.
صرعنا حواوا ساكن غابة الأرز.
فأي نوم هبط عليك،
فغبتَ في ظلام لا تسمع كلماتي؟
وضع يده على قلبه فلم يسمع له نبضاً،
فرمى عليه وشاحاً كوشاح العروس،
ورفع صوته بصراخ مثل زئير الأسد.
وكلبوة سُلبت أشبالها،
صار يروح ويجيء أمام السرير.
يقطع بيديه شعر رأسه ويلقيه أرضاً،
يمزق عنه ثيابه النقية ويطرحها كأنها نجسة.
لم يصدق جلجامش موت إنكيدو؛ بقي إلى جانبه ستة أيام وسبع ليال، ولم يسلمه إلى الدفن حتى وقع الدود من أنفه. وهنا تنهار عوالم جلجامش القديمة برمتها، ويتحول الواقع إلى ركام مختلط الأشكال والألوان، ويبدأ رحلته الكبرى في البحث عن المستحيل.
رد: مدخل إلى تاريخ الشرق القديم / ملحمة جلجامش / فراس الســواح
الطور الثالث:
تفكك الواقع والبحث عن المستحيل:
يغادر جلجامش أوروك، ولكن وحيداً شريداً هذه المرة، وقد أرخى شعره الشعث، وستر جسده بجلود الأسود التي كان يصطادها في الطريق، في رحلة حُلُمية تبدو خارج المكان والزمان الأرضيين، يعذّ السير باحثاً عن أوتنابشتيم الحكيم الذي نال الخلود من دون بقية البشر، ليسأله عن سر الحياة والموت وكيفية الحصول على الخلود. ولكن بحثه عن سر الحياة والموت وعن إمكانية الخلود لا يتخذ طابعاً عقلياً منطقياً، بل طابعاً حلمياً لنفسٍ مفككة لا تجد في رفضها للواقع أفضل من البحث عن المستحيل. فجلجامش لم يكن في حقيقة الأمر باحثاً عن الخلود، كما تؤكد كل التفسيرات التي وضعت حتى الآن، بل كان باحثاً عن المعنى في الحياة. كما أن عودته إلى أوروك في النهاية لم تكن هزيمة للإنسان أمام هدف محكوم عليه سلفاً بالهزيمة، وإنما انتصاراً لحياة وجدت المعنى فيها والغاية.
في رحلته الأولى إلى غابة الأرز كان جلجامش يتحرك ضمن مكان وزمان واقعيين، أما في رحلته الثانية هذه فقد انقطع جلجامش عن الواقع ودخل في الأسطورة؛ فهو يتحرك في حيز غير محدد، ويرتاد مفازات لا وجود لها على خرائط ذلك الزمان، دون أن يحكم حركته تدفق الزمن المعروف. والأشخاص الذين يقابلهم ليسوا من لحم ودم بشريين. فلقد وصل في رحلته حتى مغرب الشمس، حيث جبل ماشو، الذي تمتد أساساته إلى العالم الأسفل، وتناطح ذراه حدود السماء. وهناك يقابل البشر العقارب الذين يدلونه على الطريق إلى أوتنابشتيم. ثم يسير في درب الشمس السفلي الذي تقطعه تحت الأرض عند الغروب لتخرج من الطرف الآخر عند الشروق، فيؤدي به إلى حدائق ثمارها من عقيق وأحجار كريمة، فيجتازها ليجد نفسه عند حافة المحيط المائي العظيم الذي يستدير حول العالم، وهناك يلتقي بالفتاة الغامضة سيدوري ساقية حان الآلهة، ثم بالملاح أورشنابي ربان مركب أوتنابشتيم، الذي يحمله معه عبر مياه الموت إلى جزيرة نائية تقع خارج العالم المعروف، حيث يعيش أوتنابشتيم وزوجته خالدين فيها. وفي كل لقاء له كان يكرر القول نفسه عن موت إنكيدو وعن جزعه من الموت وعن هدف رحلته:
صديقي الذي سار إلى جانبي عبر المهالك،
أدركه مصير البشر.
ستة أيام وسبع ليال بكيت عليه،
ولم أسلمه للدفن
حتى سقطت دودة من أنفه.
فانتابني هلع الموت حتى همت في البراري،
يثقل صدري مصابي بأخي.
أهيم في البراري في كل حدبٍ وصوب،
يثقل صدري مصابي بأخي.
وما لي من هدأة وما لي من سكون،
فصديقي الذي أحببت صار إلى تراب.
وأنا، أفلا أرقد مثله ولا أفيق أبداً؟
وفي كل مرة كان يتلقى درساً في معنى الحياة. قال له الإله شَمَشْ:
إلى أين تمضي يا جلجامش،
وإلى أين تسعى بك قدماك؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
وقال له أوتنابشتيم:
هل نشيد بيوتاً لا يدركها الفناء؟
وهل نعقد ميثاقاً لا يصيبه البِلى؟
هل يقتسم الأخوة ميراثهم ليبقى دهراً؟
وهل ينزرع الحقد في الأرض دواماً؟
هل يخرج اليعسوب من شرنقته،
ليدير وجهه للشمس طِوالاً؟
فمنذ القِدم لا تظهر الأمور ثباتاً.
في البدء اجتمع الآلهة الكبار،
وزعوا الحياة والموت،
ولم يكشفوا لحيّ عن يومه الموقوت.
فالحياة قائمة بالتغير الدائم، والوجود صيرورة لا ثبات. وهذا يعني أن الخلود هو شكل من أشكال العدم لا شكل من أشكال الوجود. وجلجامش نفسه بعد أن التقى أوتنابشتيم للمرة الأولى بعد طول تلهف، لم يرَ فيه صورة مشرقة للخلود الذي يبحث عنه. فها هو في جزيرته النائية مستلق على جنبه أو قفاه لا يفعل شيئاً، ولا ينتظر أن يأتيه الزمان بشيء. فقال له:
أنظر إليك يا أوتنابشتيم،
شكلك عادي وأراك مثلنا!
صَوَّرك لي خيالي كبطل على أهبة القتال،
ولكن ها أنت مضطجع على جنبك أو قفاك!
فقل لي كيف صرت مع الآلهة ونلت الحياة؟
وقالت له فتاة الحان:
إلى أين تمضي يا جلجامش؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
فالآلهة لما خلقت البشر،
جعلت الموت لهم نصيباً،
وحبست بين أيديها الحياة.
أما أنت يا جلجامش، فاملأ بطنك.
افرح ليلك ونهارك.
اجعل من كل يوم عيداً.
ارقص لاهياً في الليل والنهار.
أخطر بثياب نظيفة زاهية.
اغسل رأسك وتحمم بالمياه.
دلل صغيرك الذي يمسك يدك،
واسعد زوجك بين أحضانك.
هذا نصيب البشر في هذه الحياة.
لقد ضلل خطاب سيدوري بصياغته الحسية القريبة المعاني معظم المفسرين الحديثين، الذين رأوا فيه دعوة إلى موقف نهيليستي عدمي من الحياة. وفي الحقيقة فإن ما تريد سيدوري قوله يشكل أحد العناصر الرئيسية في معنى الملحمة ورسالتها. فهدف الحياة ومعناها كامن فيها، في الممكنات غير المحدودة التي تتيحها لنا، والتي نعمى عنها عندما يداهمنا رعب الموت فنسعى إلى إطالة حياة لا ندري ماذا نفعل بها. إن خطاب سيدوري ليطرح سؤالاً جوهرياً على كل حالم ينشد الخلود: هل استنفذت ممكنات الحياة قبل أن تطمح إلى الخلود؟ هل أغنيت حياتك وحياة الآخرين من حولك قبل أن تفكر في إطالتها؟ الموت حق، ولكن الحياة حق أيضاً. ونحن قادرون على تفجير كل لحظة من لحظاتها وتفتيح أقصى ممكناتها. وليست الممكنات التي عددتها سيدوري إلا أمثلة من الممكن لا استنفاذاً له.
تنتهي رحلة جلجامش الحلمية بعد سماعه من أوتنابشتيم قصة الطوفان، وكيف حصل على الخلود نتيجة وضع استثنائي لن يتكرر لأحد من البشر. ثم يدرك نواحي قصوره الإنساني عندما فشل في امتحان التغلب على النوم. ولكنه بقي مع ذلك متعلقاً بأهداب أمل واهٍ. فما إن نزل أوتنابشتيم عند رغبة زوجته، ودل جلجامش على النبتة السحرية التي تعيش في الأعماق المائية، والتي تجدد شباب من يأكل منها دون أن تهبه الخلود، حتى هبط إليها فاقتلعها بعد عناء. ولكن شيئاً ما حصل له هناك عندما رأى «شارة» وضعها له في الأعماق إله الحكمة والماء إنكي، أزاحت عن بصيرته الغمام، وجاءته بالكشف الذي يسعى كل رجل حكيم إليه. ولكن جلجامش لم يحدثنا بأمر ما رأى إلا بسطرين مختزلين:
عندما نزلتُ المجرى المائي وفتحت القناة،
وجدت شارة وُضِعت لي،
وإني أعلن انسحابي.
الطور الرابع:
إعادة تركيب الواقع:
تجهز جلجامش لرحلة العودة برفقة أروشنابي الذي طرده أوتنابشتيم من خدمته، وقال له وهو يحمل النبتة إلى السفينة: «إنها لنبتة عجائبية يا أورشنابي. بها يستعيد الإنسان قواه السابقة. سأحملها معي إلى أوروك وأعطيها للشيوخ يقتسمونها، وأسميها رجوع الشيخ إلى صباه. ولسوف آكل منها أيضاً وأعود إلى شبابي». نلاحظ من كلام جلجامش هذا، كيف انتهى هاجس جلجامش المسيطر، وجريه المجنون وراء مصيره الفردي الخاص. فهو إذ يحمل النبتة السحرية معه، سيجعل الشيوخ يقتسمونها فيما بينهم، وسيكون آخر من يأكل منها لا أولهم. وفي هذا إشارة إلى التحول العميق الذي حققه جلجامش عبر الملحمة، من الموقف الفردي الخاص إلى الاهتمام بصالح المجموع. كما نلاحظ أيضاً أن جري جلجامش وراء مصيره الخاص في المرحلة الثالثة من تطوره، لم يكن إلا شكلاً ظاهرياً لجريه الأعمق وراء حل معضلة جوهرية تتعلق بالشرط الإنساني عموماً.
تتميز رحلة العودة بواقعيتها وسرعتها وخلوها من التفاصيل. فنحن لا نقطع مع جلجامش مياه الموت، ولا نحط عند شاطئ الأوقيانونس حيث مسكن سيدوري، ولا نمرُّ بحدائق العقيق واللازورد، ولا نتوقف عند جبل ماشو حيث البشر العقارب، ولا نعبر نفق الشمس الطويل، ولا نتطوح في البراري والغابات. ذلك أن رحلة العودة إلى أوروك هي رحلة العودة إلى الواقع، ونهاية للرحلة الحلمية:
بعد عشرين ساعة مضاعفة توقفا للطعام.
بعد عشرين ساعة مضاعفة توقفا لقضاء الليل.
فرأى جلجامش بركة ماء بارد،
نزل فيها واستحم بمائها.
فتشممت حيَّةٌ رائحة النبتة،
وتسللت خارجة من الماء وخطفتها،
وبينما هي عائدة، تجدد جلدها.
وهنا، جلس جلجامش وبكى.
بعد خسارة جلجامش لأمل تجديد الشباب بعد أمل الخلود، يسقط عالم الحلم نهائياً، ويتأكد له الدرس الذي أراد الإله إنكي تعليمه إياه من خلال الشارة التي وضعها له في الأعماق المائية، فيتابع رحلته إلى أوروك وقد تحرر تماماً من كل وهم:
بعد عشرين ساعة مضاعفة توقفا للطعام.
بعد ثلاثين ساعة مضاعفة توقفا لقضاء الليل.
وعندما وصلا أوروك المنيعة،
قال له جلجامش، قال لأورشنابي:
أي أورشنابي، أُعلُ سور أوروك، امش عليه؛
إلمس قاعدته، تفحص صنعة آجره؛
أليست لَبِناتُه من آجُرّ مكين،
والحكماء السبعة من صَنَعَ له الأساس؟
وهكذا تنتهي الملحمة بما ابتدأت به من وصف لأسوار أوروك المنيعة؛ ولكن لا لإظهار الحلقة المفرغة التي سار بها جلجامش، وعبثية رحلته الكبرى، وإنما لتوكيد فكرة هي البؤرة من تفسيرنا. فجلجامش قد غادر واقعاً غير مفهوم وغير مقبول، ليعود إليه بحكمة تساعده على فهمه وقبوله وتجاوزه.
لم يقهر جلجامش الموت، بل لقد قبل الموت. وبقبوله للموت فقد قبل الحياة
تفكك الواقع والبحث عن المستحيل:
يغادر جلجامش أوروك، ولكن وحيداً شريداً هذه المرة، وقد أرخى شعره الشعث، وستر جسده بجلود الأسود التي كان يصطادها في الطريق، في رحلة حُلُمية تبدو خارج المكان والزمان الأرضيين، يعذّ السير باحثاً عن أوتنابشتيم الحكيم الذي نال الخلود من دون بقية البشر، ليسأله عن سر الحياة والموت وكيفية الحصول على الخلود. ولكن بحثه عن سر الحياة والموت وعن إمكانية الخلود لا يتخذ طابعاً عقلياً منطقياً، بل طابعاً حلمياً لنفسٍ مفككة لا تجد في رفضها للواقع أفضل من البحث عن المستحيل. فجلجامش لم يكن في حقيقة الأمر باحثاً عن الخلود، كما تؤكد كل التفسيرات التي وضعت حتى الآن، بل كان باحثاً عن المعنى في الحياة. كما أن عودته إلى أوروك في النهاية لم تكن هزيمة للإنسان أمام هدف محكوم عليه سلفاً بالهزيمة، وإنما انتصاراً لحياة وجدت المعنى فيها والغاية.
في رحلته الأولى إلى غابة الأرز كان جلجامش يتحرك ضمن مكان وزمان واقعيين، أما في رحلته الثانية هذه فقد انقطع جلجامش عن الواقع ودخل في الأسطورة؛ فهو يتحرك في حيز غير محدد، ويرتاد مفازات لا وجود لها على خرائط ذلك الزمان، دون أن يحكم حركته تدفق الزمن المعروف. والأشخاص الذين يقابلهم ليسوا من لحم ودم بشريين. فلقد وصل في رحلته حتى مغرب الشمس، حيث جبل ماشو، الذي تمتد أساساته إلى العالم الأسفل، وتناطح ذراه حدود السماء. وهناك يقابل البشر العقارب الذين يدلونه على الطريق إلى أوتنابشتيم. ثم يسير في درب الشمس السفلي الذي تقطعه تحت الأرض عند الغروب لتخرج من الطرف الآخر عند الشروق، فيؤدي به إلى حدائق ثمارها من عقيق وأحجار كريمة، فيجتازها ليجد نفسه عند حافة المحيط المائي العظيم الذي يستدير حول العالم، وهناك يلتقي بالفتاة الغامضة سيدوري ساقية حان الآلهة، ثم بالملاح أورشنابي ربان مركب أوتنابشتيم، الذي يحمله معه عبر مياه الموت إلى جزيرة نائية تقع خارج العالم المعروف، حيث يعيش أوتنابشتيم وزوجته خالدين فيها. وفي كل لقاء له كان يكرر القول نفسه عن موت إنكيدو وعن جزعه من الموت وعن هدف رحلته:
صديقي الذي سار إلى جانبي عبر المهالك،
أدركه مصير البشر.
ستة أيام وسبع ليال بكيت عليه،
ولم أسلمه للدفن
حتى سقطت دودة من أنفه.
فانتابني هلع الموت حتى همت في البراري،
يثقل صدري مصابي بأخي.
أهيم في البراري في كل حدبٍ وصوب،
يثقل صدري مصابي بأخي.
وما لي من هدأة وما لي من سكون،
فصديقي الذي أحببت صار إلى تراب.
وأنا، أفلا أرقد مثله ولا أفيق أبداً؟
وفي كل مرة كان يتلقى درساً في معنى الحياة. قال له الإله شَمَشْ:
إلى أين تمضي يا جلجامش،
وإلى أين تسعى بك قدماك؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
وقال له أوتنابشتيم:
هل نشيد بيوتاً لا يدركها الفناء؟
وهل نعقد ميثاقاً لا يصيبه البِلى؟
هل يقتسم الأخوة ميراثهم ليبقى دهراً؟
وهل ينزرع الحقد في الأرض دواماً؟
هل يخرج اليعسوب من شرنقته،
ليدير وجهه للشمس طِوالاً؟
فمنذ القِدم لا تظهر الأمور ثباتاً.
في البدء اجتمع الآلهة الكبار،
وزعوا الحياة والموت،
ولم يكشفوا لحيّ عن يومه الموقوت.
فالحياة قائمة بالتغير الدائم، والوجود صيرورة لا ثبات. وهذا يعني أن الخلود هو شكل من أشكال العدم لا شكل من أشكال الوجود. وجلجامش نفسه بعد أن التقى أوتنابشتيم للمرة الأولى بعد طول تلهف، لم يرَ فيه صورة مشرقة للخلود الذي يبحث عنه. فها هو في جزيرته النائية مستلق على جنبه أو قفاه لا يفعل شيئاً، ولا ينتظر أن يأتيه الزمان بشيء. فقال له:
أنظر إليك يا أوتنابشتيم،
شكلك عادي وأراك مثلنا!
صَوَّرك لي خيالي كبطل على أهبة القتال،
ولكن ها أنت مضطجع على جنبك أو قفاك!
فقل لي كيف صرت مع الآلهة ونلت الحياة؟
وقالت له فتاة الحان:
إلى أين تمضي يا جلجامش؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
فالآلهة لما خلقت البشر،
جعلت الموت لهم نصيباً،
وحبست بين أيديها الحياة.
أما أنت يا جلجامش، فاملأ بطنك.
افرح ليلك ونهارك.
اجعل من كل يوم عيداً.
ارقص لاهياً في الليل والنهار.
أخطر بثياب نظيفة زاهية.
اغسل رأسك وتحمم بالمياه.
دلل صغيرك الذي يمسك يدك،
واسعد زوجك بين أحضانك.
هذا نصيب البشر في هذه الحياة.
لقد ضلل خطاب سيدوري بصياغته الحسية القريبة المعاني معظم المفسرين الحديثين، الذين رأوا فيه دعوة إلى موقف نهيليستي عدمي من الحياة. وفي الحقيقة فإن ما تريد سيدوري قوله يشكل أحد العناصر الرئيسية في معنى الملحمة ورسالتها. فهدف الحياة ومعناها كامن فيها، في الممكنات غير المحدودة التي تتيحها لنا، والتي نعمى عنها عندما يداهمنا رعب الموت فنسعى إلى إطالة حياة لا ندري ماذا نفعل بها. إن خطاب سيدوري ليطرح سؤالاً جوهرياً على كل حالم ينشد الخلود: هل استنفذت ممكنات الحياة قبل أن تطمح إلى الخلود؟ هل أغنيت حياتك وحياة الآخرين من حولك قبل أن تفكر في إطالتها؟ الموت حق، ولكن الحياة حق أيضاً. ونحن قادرون على تفجير كل لحظة من لحظاتها وتفتيح أقصى ممكناتها. وليست الممكنات التي عددتها سيدوري إلا أمثلة من الممكن لا استنفاذاً له.
تنتهي رحلة جلجامش الحلمية بعد سماعه من أوتنابشتيم قصة الطوفان، وكيف حصل على الخلود نتيجة وضع استثنائي لن يتكرر لأحد من البشر. ثم يدرك نواحي قصوره الإنساني عندما فشل في امتحان التغلب على النوم. ولكنه بقي مع ذلك متعلقاً بأهداب أمل واهٍ. فما إن نزل أوتنابشتيم عند رغبة زوجته، ودل جلجامش على النبتة السحرية التي تعيش في الأعماق المائية، والتي تجدد شباب من يأكل منها دون أن تهبه الخلود، حتى هبط إليها فاقتلعها بعد عناء. ولكن شيئاً ما حصل له هناك عندما رأى «شارة» وضعها له في الأعماق إله الحكمة والماء إنكي، أزاحت عن بصيرته الغمام، وجاءته بالكشف الذي يسعى كل رجل حكيم إليه. ولكن جلجامش لم يحدثنا بأمر ما رأى إلا بسطرين مختزلين:
عندما نزلتُ المجرى المائي وفتحت القناة،
وجدت شارة وُضِعت لي،
وإني أعلن انسحابي.
الطور الرابع:
إعادة تركيب الواقع:
تجهز جلجامش لرحلة العودة برفقة أروشنابي الذي طرده أوتنابشتيم من خدمته، وقال له وهو يحمل النبتة إلى السفينة: «إنها لنبتة عجائبية يا أورشنابي. بها يستعيد الإنسان قواه السابقة. سأحملها معي إلى أوروك وأعطيها للشيوخ يقتسمونها، وأسميها رجوع الشيخ إلى صباه. ولسوف آكل منها أيضاً وأعود إلى شبابي». نلاحظ من كلام جلجامش هذا، كيف انتهى هاجس جلجامش المسيطر، وجريه المجنون وراء مصيره الفردي الخاص. فهو إذ يحمل النبتة السحرية معه، سيجعل الشيوخ يقتسمونها فيما بينهم، وسيكون آخر من يأكل منها لا أولهم. وفي هذا إشارة إلى التحول العميق الذي حققه جلجامش عبر الملحمة، من الموقف الفردي الخاص إلى الاهتمام بصالح المجموع. كما نلاحظ أيضاً أن جري جلجامش وراء مصيره الخاص في المرحلة الثالثة من تطوره، لم يكن إلا شكلاً ظاهرياً لجريه الأعمق وراء حل معضلة جوهرية تتعلق بالشرط الإنساني عموماً.
تتميز رحلة العودة بواقعيتها وسرعتها وخلوها من التفاصيل. فنحن لا نقطع مع جلجامش مياه الموت، ولا نحط عند شاطئ الأوقيانونس حيث مسكن سيدوري، ولا نمرُّ بحدائق العقيق واللازورد، ولا نتوقف عند جبل ماشو حيث البشر العقارب، ولا نعبر نفق الشمس الطويل، ولا نتطوح في البراري والغابات. ذلك أن رحلة العودة إلى أوروك هي رحلة العودة إلى الواقع، ونهاية للرحلة الحلمية:
بعد عشرين ساعة مضاعفة توقفا للطعام.
بعد عشرين ساعة مضاعفة توقفا لقضاء الليل.
فرأى جلجامش بركة ماء بارد،
نزل فيها واستحم بمائها.
فتشممت حيَّةٌ رائحة النبتة،
وتسللت خارجة من الماء وخطفتها،
وبينما هي عائدة، تجدد جلدها.
وهنا، جلس جلجامش وبكى.
بعد خسارة جلجامش لأمل تجديد الشباب بعد أمل الخلود، يسقط عالم الحلم نهائياً، ويتأكد له الدرس الذي أراد الإله إنكي تعليمه إياه من خلال الشارة التي وضعها له في الأعماق المائية، فيتابع رحلته إلى أوروك وقد تحرر تماماً من كل وهم:
بعد عشرين ساعة مضاعفة توقفا للطعام.
بعد ثلاثين ساعة مضاعفة توقفا لقضاء الليل.
وعندما وصلا أوروك المنيعة،
قال له جلجامش، قال لأورشنابي:
أي أورشنابي، أُعلُ سور أوروك، امش عليه؛
إلمس قاعدته، تفحص صنعة آجره؛
أليست لَبِناتُه من آجُرّ مكين،
والحكماء السبعة من صَنَعَ له الأساس؟
وهكذا تنتهي الملحمة بما ابتدأت به من وصف لأسوار أوروك المنيعة؛ ولكن لا لإظهار الحلقة المفرغة التي سار بها جلجامش، وعبثية رحلته الكبرى، وإنما لتوكيد فكرة هي البؤرة من تفسيرنا. فجلجامش قد غادر واقعاً غير مفهوم وغير مقبول، ليعود إليه بحكمة تساعده على فهمه وقبوله وتجاوزه.
لم يقهر جلجامش الموت، بل لقد قبل الموت. وبقبوله للموت فقد قبل الحياة
رد: مدخل إلى تاريخ الشرق القديم / ملحمة جلجامش / فراس الســواح
3- أثر الملحمة في ثقافات العالم القديم
لقد تعلم جلجامش، من جملة ما تعلم، وعلَّمنا، أن معنى الحياة قائم في المعرفة والحكمة التي نكتسبها ونسلمها لمن يرث الأرض بعدنا، وفي الفعل الحضاري الخلاق. وهاهي حياة الملحمة من بعده تثبت أنه كان على حق. فإضافة إلى ذيوع الملحمة بنصها في جميع أرجاء الشرق القديم، فإن أفكارها قد ساهمت بنصيب، يليق بها، في الحياة الفكرية والروحية لحضارة المنطقة والحضارات المجاورة، وأخذت مكانها في حضارة الكون القائمة. ألسنا جلوساً الآن، في مطلع القرن الواحد والعشرين نقرأ جلجامش ونحاوره، وكأن ألوف السنين الماضيات قد ذابت؟
ولسوف يتركز بحثي في هذه الحلقة الختامية، على أثر ملحمة جلجامش في كتاب التوراة، وأثرها في الأسطورة الإغريقية، وفي بعض المرويات الشعبية العربية.
جلجامش و «سفر الجامعة»:
يقدم لنا «سفر الجامعة» في كتاب التوراة، صورة عن استمرارية الحياة الفكرية لحضارات الشرق القديم ووحدتها عبر العصور. فبطل السفر كان ملكاً كجلجامش، عظيماً قوياً حكيماً. بنى وأشاد وتمتع بكل مباهج الدنيا، ثم أتاه الكشف المباغت، فراح يتساءل عن معنى الحياة، طالما الموت خاتمها:
«أنا الجامعة، كنت ملكاً على إسرائيل... عمِلْتُ لنفسي جنات وفراديس، قنيت عبيداً وجواري، وكان لي ولدان البيت. جمعت لنفسي فضة وذهباً، اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات، وتنعمات بني البشر سيدة وسيدات. فعظُمْتُ وازددت أكثر من جميع الذين كانوا قبلي في أورشليم، وبقيتْ أيضاً حكمتي معي، ولم أمنع نفسي من كل فرح. ثم التفتُّ أنا إلى كل أعمالي التي عملَتْها يداي، وإلى التعب الذي تعبت في عمله، فإذا الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس...
باطل الأباطيل، الكل باطل. ما فائدة الإنسان من تعبه الذي يتعبه تحت الشمس. دَوْرٌ يمضي ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد، والشمس تشرق، والشمس تغرب، وتسرع إلى موضعها حيث تشرق (ثانية). الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال، تذهب دائرة دوراناً، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة... فليس تحت الشمس من جديد».
بعد هذا يتوصل الجامعة إلى الحكمة التي وعظت بها سيدوري فتاة الحان، جلجامش، قبل أن تدله على الطريق إلى أوتنابشتيم. وسأورد فيما يلي النص التوراتي جنباً إلى جنب مع النص الأكادي لإيضاح التشابه بينهما.
الجامعة: 9: 7-9
اذهب كُلْ خبزك بفرح واشرب خمرك،
لأن الله منذ زمان قد ارتضى عملك.
لتكن ثيابك نظيفة، في كل حين بيضاء،
ولا يعوز رأسك الدهن (الطيب).
التذ عيشاً مع المرأة التي أحببتها.
لأن هذا هو نصيبك في الحياة.
حديث سيدوري، اللوح العاشر:
املأ بطنك، وافرح ليلك ونهارك،
وارقص لاهياً في الليل والنهار.
اخطر بثياب زاهية نظيفة.
اغسل رأسك، حمم جسدك.
دلل صغيرك الذي يمسك بيدك،
واسعد زوجك بين أحضانك،
هذا هو نصيب البشر.
وكما يقول أوتنابشتيم لجلجامش في اللوح العاشر:
لقد اجتمع الأنوناكي، الآلهة الكبار،
و مامي توم سيدة المصائر، قدرت معهم المصائر.
وزعوا الحياة والموت،
ولم يكشفوا عن يومه الموقوت.
كذلك يقول الجامعة:
لكل أمر وقت وحكم،
ولا سلطان على يوم الموت (8: 6-
ومثل حديث جلجامش إلى إنكيدو في اللوح الثالث:
الآلهة هم الخالدون في مرتع شمش
أما البشر فأيامهم معدودة
وقبض الريح كل ما يفعلون
كذلك يقول الجامعة:
وجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة
عن كل ما عُمِل تحت السموات
فإذا الكل باطل وقبض الريح (1: 14-15)
ومثل حكمة جلجامش التي تتحدث عنها مقاطع عديدة في الملحمة، كذلك الجامعة:
وَلدٌ فقير وحكيم، خير من ملك شيخ جاهل.
رأيت كل الأحياء السائرين تحت الشمس
مع الولد الثاني (4: 13-15).
الحكمة صالحة مثل الميراث بل أفضل لناظري الشمس،
لأن الذي في ظل الحكمة هو في ظل الفضة،
وفضل المعرفة هو أن الحكمة تحيي أصحابها (7: 11-12).
كلمات فم الحكيم نعمة، وشفتا الجاهل تبتلعانه؛
ابتداء كلمات فمه جهالة، وآخر فمه جنون (10: 12-13).
غير أن الفرق بين الملحمة وسفر الجامعة، هو أن السفر لا يتوصل إلى نفس النتائج الإيجابية الواضحة التي توصل إليها جلجامش، بل يبقى معلقاً بين التمرد الإنساني على القضاء، والخضوع للمشيئة الإلهية غير المفهومة من البشر.
جلجامش وآدم وحواء:
في قصة آدم وحواء التوراتية كثير من العناصر الأسطورية الخاصة بالأساطير السورية وأساطير بلاد الرافدين. فاسم آدم لنفسه ليس إلا كلمة أوغاريتية تعني البشر أو الإنسان. كما يروي الكثير من أساطير الخلق السومرية والبابلية عن زوجين بدئيين تم خلقهما من طين. وفي أسطورة آدابا البابلية عدد من العناصر الأساسية لقصة آدم. فآدابا، والاسم هنا شديد الشبه باسم آدم، هو الإنسان الأول الذي خسر الخلود بسبب غلطة ارتكبها. ورغم أن هذه الغلطة ترجع إلى نوع من سوء التفاهم، وسوء نية الإله «إيا» الذي خلقه، فهي في نتائجها تتلاقى مع نتائج خطيئة آدم، فكلاهما خسر الحياة الأبدية وجلب الموت على ذريته.
فإذا أتينا إلى ملحمة جلجامش وجدنا في إنكيدو صورة عن الإنسان الأول الذي تم خلقه من طين، وعاش في الطبيعة حياة حرة طليقة قبل أن يلتقي بالمرأة الني نقلته، بعد الفعل الجنسي، من حياة البداءة والحرية الحيوانية المفرغة من المضمون، إلى حياة الجماعة والحرية ذات المضمون. ووجدنا في آدم الأول تكراراً لإنكيدو. فآدم قد خلق من طين وعاش في الطبيعة يأكل من حيث شاء رغداً إلى أن جاءت حواء وأطعمته من ثمرة الجنس المحرم، وخرجت به من عالم حرية الطبيعة إلى الحرية الإنسانية ذات الهدف والمضمون، فشكلا وأولادهما الجماعة البشرية الأولى التي تعمل وتكد وتلاقي الموت من أجل استمرار الحضارة التي ابتدأت معهما. وتشكل العلاقة مع المرأة في كلا القصتين، نوعاً من طقس العبور، أو الطقس الإدخالي Initiation الذي نقلهما من السذاجة الأولى إلى المعرفة. ففي سفر التكوين يغدو آدم وحواء عارفين بالخير والشر، و «تنفتح أعينهما» عقب المباشرة الجنسية. ثم يخرجان من جنة عدن، عالم الطبيعة الحيوانية، إلى الأرض عالم الطبيعة الإنسانية ليعملا ويكدا مبتدئين الفعل الحضاري الخلاق الأول، في دنيا الاختيار والحرية الإنسانية ذات المضمون والغاية. وكذلك الأمر في ملحمة جلجامش حيث:
تعثر إنكيدو في جريه، صار غير الذي كان
لكنه غدا عارفاً، واسع الفهم
ثم تقوده المرأة إلى مساكن الرعاة حيث يبدأ بممارسة حريته الملتزمة، فيحرس قطعان الماشية ويطارد الأسود ليكفي الرعاة شرها، وبعدها ينتقل إلى حياة المدينة حيث يقود مع جلجامش حملته الكبرى ضد رمز الشر.
وكما كانت الحية مسؤولة، في ملحمة جلجامش، عن خسارته للنبتة التي تجدد الشباب، كذلك كانت في قصة آدم وحواء التوراتية، مسؤولة عن خسارتهما للحياة الخالدة في جنة عدن.
وجنة عدن التي أعدت للخالدين، في التصور التوراتي هي المكان الذي تصدر منه الأنهار: «وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس»- التكوين 2: 8-14. وكذلك الأمر في المكان الذي أسكنت فيه الآلهة أوتنابشتيم وزوجته الخالدين، إذ تصفه الملحمة في أكثر من موضع بأنه يقع حيث فم الأنهار.
جلجامش وشمشون:
يحدثنا سفر القضاة في الإصحاحات 14 و15 و16 عن بطل اسمه شمشون، أرسله الرب لتخليص بني إسرائيل من اضطهاد الفلسطينيين لهم. تلده أمه العاقر إثر معجزة من الرب، ويُظهر شمشون منذ يفاعته قوى خارقة زودته بها العناية الإلهية لأجل إتمام مهمته التي نذر لها. فكان يقتل الأسود بيديه العاريتين، ويصرع المئات من جنود الأعداء في كل انقضاض له عليهم. وعندما تسلم القضاء في إسرائيل، بدأ حرباً على الفلسطينيين من دون جنود ولا معدات، فكان يقاتل وحيداً على طريقة حرب العصابات مستخدماً قوته وحيلته. وفي النهاية تمكن منه أعداؤه بواسطة امرأة اسمها دليلة كان يتردد على بيتها ويعاشرها، فعرفت المرأة سر قوته ومكمن ضعفه وأسلمته إلى الفلسطينيين.
على الرغم من ضعف الصلة بين عناصر هذه القصة وعناصر ملحمة جلجامش، إلا أنه من الواضح أن محرري التوراة، قد استلهموا في رسم قصتهم عن شمشون بعض العناصر الشائعة في التقاليد المحلية، والمتسلسلة من ملحمة جلجامش التي كانت معروفة في فلسطين على ما تدل عليه كسرة لوح فخاري تحتوي على جزء صغير من ملحمة جلجامش، عُثِرَ عليها في موقع مدينة مجدو القديمة، وترجع هذه الكسرة بتاريخها إلى القرن الرابع عشر ق.م. وفيما يتعلق بالاسم شمشون، فيبدو أنه مستمد من تقاليد مصرية حول جلجامش الذي عرف في مصر بالاسم «شون» أو «شوم».
قصة الطوفان:
هناك شبه كبير بين قصة الطوفان التي يرويها أوتنابشتيم لجلجامش، وقصة الطوفان في التوراة الواردة في سفر التكوين الإصحاحات (6و7و. ففي كلتا القصتين هنالك قرار إلهي بتدمير الأرض بطوفان عظيم؛ يلي ذلك اختيار رجل صالح لإنقاذ بذرة الحياة على الأرض، عن طريق بناء سفينة عملاقة يحمل فيها أهله ومن الحيوانات اثنين اثنين، ذكراً وأنثى. ولكن الإله التوراتي يهوه يلعب منفرداً، في القصة التوراتية، الأدوار المختلفة للآلهة البابلية. ففي طوفان جلجامش نجد أن مجمع الآلهة يتخذ قرار الطوفان، والإله إنليل يرسل الطوفان ويدمر الحياة على الأرض، والإله إيا هو الذي يأمر ببناء السفينة وإنقاذ بذرة الحياة. أما في الطوفان التوراتي فإن الإله يهوه هو يتخذ قرار الطوفان، وهو الذي ينفذه، وهو الذي يأمر ببناء سفينة.
جلجامش وثيسيوس:
نلمح في شخصية ثيسيوس، في الأسطورة الإغريقية، سمات واضحة من شخصية جلجامش. فهو ابن ملك أثينا، وكانت أمه قبل إنجابه عشيقة لبوسيدون إله البحر. وعن طريق بوسيدون، تسلل إليه بعض الدم الإلهي. نشأ متفوقاً على جميع الرجال في قوته الجسدية وأنجز أعمالاً بطولية خارقة أهمها قتل ثور الميناتور الكريتي، الذي كانت أثينا ترسل إليه في كل عام دية مؤلفة من زهرة شبابها ليلتهمهم (قارن مع قصة ثور السماء في الملحمة). ثم هبط مع صديقه المخلص بيريتوس (الذي كان يلازمه كملازمة إنكيدو لجلجامش) إلى العالم الأسفل لاختطاف يبرسفوني زوجة هاديس إله عالم الموتى، ولكن العالم الأسفل أمسك بالثاني كما أمسك بإنكيدو، واستطاع ثيسيوس تخليص نفسه والصعود تاركاً صديقه في الظلام الأبدي. وقد حكم ثيسيوس أثينا كملك بعد وفاة أبيه.
جلجامش وأخيل:
كان أخيل الشخصية المركزية في إلياذة هوميروس المعروفة. أنجبته إلهة مائية ثانوية اسمها «ثيتيس» من زوجها «بيليوس» ملك صقلية، فكان مزيجاً من إله وبشر (قارن مع الإلهة الثانوية ننسون أم جلجامش، ومزيجه الإلهي). حاولت أمه أن تهبه نعمة الخلود فغمسته في ماء نهر «ستيكس» الإلهي الذي يذهب بالجزء الفاني من الجسد ويبقي على الجوهر الخالد، فغمره الماء إلا كاحله الذي كانت تمسك به، وبذلك بقيت في جسده نقطة ضعف إنساني يتسلل منه البلى إليه (قارن مع سعي جلجامش إلى الخلود). ولما تدرج نحو الفتوة عهد به أبوه إلى الصنتور الحكيم «كيرون» الذي رباه وعلَّمه. كان كيرون يطعمه أحشاء الأسود ومخ عظام الدببة الهائلة لتقوية جسده، ويعلمه الكتابة ومختلف أنواع العلوم والحكمة. فشب قوياً في جسمه وعقله (قارن مع قوة جلجامش وحكمته). شارك أخيل في حروب طروادة وكان أعظم أبطالها، واشتهرت صداقته الحميمة لبطل آخر من أبطال الإلياذة اسمه «باتروكليس» وتناقلت الأخبار قصة الحب الكبير الذي نشأ بينهما. وكان مصرع باتروكليس على يد الطرواديين السبب في عودة أخيل إلى القتال بعد أن اعتزله مدة طويلة لخلاف مع «أغاممنون» (قارن مع علاقة جلجامش وإنكيدو). وعندما تأخر أخيل في دفن صديقه بسبب إطالة مراسيم الدفن وطقوس الحزن، ظهر له شبح باتروكليس من العالم الأسفل وكلمه (قارن مع تأخر جلجامش في دفن إنكيدو وطقوس الحداد التي أقامها، وظهور شبح إنكيدو من العالم الأسفل).
وفي نهاية ملحمة هوميروس يموت أخيل بسهم سدده إليه «باريس»، إذ يصيب السهم كاحل أخيل في نقطته البشرية الضعيفة (قارن مع فشل جلجامش في الحصول على الخلود، وقبول طبيعته البشرية).
لقد تعلم جلجامش، من جملة ما تعلم، وعلَّمنا، أن معنى الحياة قائم في المعرفة والحكمة التي نكتسبها ونسلمها لمن يرث الأرض بعدنا، وفي الفعل الحضاري الخلاق. وهاهي حياة الملحمة من بعده تثبت أنه كان على حق. فإضافة إلى ذيوع الملحمة بنصها في جميع أرجاء الشرق القديم، فإن أفكارها قد ساهمت بنصيب، يليق بها، في الحياة الفكرية والروحية لحضارة المنطقة والحضارات المجاورة، وأخذت مكانها في حضارة الكون القائمة. ألسنا جلوساً الآن، في مطلع القرن الواحد والعشرين نقرأ جلجامش ونحاوره، وكأن ألوف السنين الماضيات قد ذابت؟
ولسوف يتركز بحثي في هذه الحلقة الختامية، على أثر ملحمة جلجامش في كتاب التوراة، وأثرها في الأسطورة الإغريقية، وفي بعض المرويات الشعبية العربية.
جلجامش و «سفر الجامعة»:
يقدم لنا «سفر الجامعة» في كتاب التوراة، صورة عن استمرارية الحياة الفكرية لحضارات الشرق القديم ووحدتها عبر العصور. فبطل السفر كان ملكاً كجلجامش، عظيماً قوياً حكيماً. بنى وأشاد وتمتع بكل مباهج الدنيا، ثم أتاه الكشف المباغت، فراح يتساءل عن معنى الحياة، طالما الموت خاتمها:
«أنا الجامعة، كنت ملكاً على إسرائيل... عمِلْتُ لنفسي جنات وفراديس، قنيت عبيداً وجواري، وكان لي ولدان البيت. جمعت لنفسي فضة وذهباً، اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات، وتنعمات بني البشر سيدة وسيدات. فعظُمْتُ وازددت أكثر من جميع الذين كانوا قبلي في أورشليم، وبقيتْ أيضاً حكمتي معي، ولم أمنع نفسي من كل فرح. ثم التفتُّ أنا إلى كل أعمالي التي عملَتْها يداي، وإلى التعب الذي تعبت في عمله، فإذا الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس...
باطل الأباطيل، الكل باطل. ما فائدة الإنسان من تعبه الذي يتعبه تحت الشمس. دَوْرٌ يمضي ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد، والشمس تشرق، والشمس تغرب، وتسرع إلى موضعها حيث تشرق (ثانية). الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال، تذهب دائرة دوراناً، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة... فليس تحت الشمس من جديد».
بعد هذا يتوصل الجامعة إلى الحكمة التي وعظت بها سيدوري فتاة الحان، جلجامش، قبل أن تدله على الطريق إلى أوتنابشتيم. وسأورد فيما يلي النص التوراتي جنباً إلى جنب مع النص الأكادي لإيضاح التشابه بينهما.
الجامعة: 9: 7-9
اذهب كُلْ خبزك بفرح واشرب خمرك،
لأن الله منذ زمان قد ارتضى عملك.
لتكن ثيابك نظيفة، في كل حين بيضاء،
ولا يعوز رأسك الدهن (الطيب).
التذ عيشاً مع المرأة التي أحببتها.
لأن هذا هو نصيبك في الحياة.
حديث سيدوري، اللوح العاشر:
املأ بطنك، وافرح ليلك ونهارك،
وارقص لاهياً في الليل والنهار.
اخطر بثياب زاهية نظيفة.
اغسل رأسك، حمم جسدك.
دلل صغيرك الذي يمسك بيدك،
واسعد زوجك بين أحضانك،
هذا هو نصيب البشر.
وكما يقول أوتنابشتيم لجلجامش في اللوح العاشر:
لقد اجتمع الأنوناكي، الآلهة الكبار،
و مامي توم سيدة المصائر، قدرت معهم المصائر.
وزعوا الحياة والموت،
ولم يكشفوا عن يومه الموقوت.
كذلك يقول الجامعة:
لكل أمر وقت وحكم،
ولا سلطان على يوم الموت (8: 6-
ومثل حديث جلجامش إلى إنكيدو في اللوح الثالث:
الآلهة هم الخالدون في مرتع شمش
أما البشر فأيامهم معدودة
وقبض الريح كل ما يفعلون
كذلك يقول الجامعة:
وجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة
عن كل ما عُمِل تحت السموات
فإذا الكل باطل وقبض الريح (1: 14-15)
ومثل حكمة جلجامش التي تتحدث عنها مقاطع عديدة في الملحمة، كذلك الجامعة:
وَلدٌ فقير وحكيم، خير من ملك شيخ جاهل.
رأيت كل الأحياء السائرين تحت الشمس
مع الولد الثاني (4: 13-15).
الحكمة صالحة مثل الميراث بل أفضل لناظري الشمس،
لأن الذي في ظل الحكمة هو في ظل الفضة،
وفضل المعرفة هو أن الحكمة تحيي أصحابها (7: 11-12).
كلمات فم الحكيم نعمة، وشفتا الجاهل تبتلعانه؛
ابتداء كلمات فمه جهالة، وآخر فمه جنون (10: 12-13).
غير أن الفرق بين الملحمة وسفر الجامعة، هو أن السفر لا يتوصل إلى نفس النتائج الإيجابية الواضحة التي توصل إليها جلجامش، بل يبقى معلقاً بين التمرد الإنساني على القضاء، والخضوع للمشيئة الإلهية غير المفهومة من البشر.
جلجامش وآدم وحواء:
في قصة آدم وحواء التوراتية كثير من العناصر الأسطورية الخاصة بالأساطير السورية وأساطير بلاد الرافدين. فاسم آدم لنفسه ليس إلا كلمة أوغاريتية تعني البشر أو الإنسان. كما يروي الكثير من أساطير الخلق السومرية والبابلية عن زوجين بدئيين تم خلقهما من طين. وفي أسطورة آدابا البابلية عدد من العناصر الأساسية لقصة آدم. فآدابا، والاسم هنا شديد الشبه باسم آدم، هو الإنسان الأول الذي خسر الخلود بسبب غلطة ارتكبها. ورغم أن هذه الغلطة ترجع إلى نوع من سوء التفاهم، وسوء نية الإله «إيا» الذي خلقه، فهي في نتائجها تتلاقى مع نتائج خطيئة آدم، فكلاهما خسر الحياة الأبدية وجلب الموت على ذريته.
فإذا أتينا إلى ملحمة جلجامش وجدنا في إنكيدو صورة عن الإنسان الأول الذي تم خلقه من طين، وعاش في الطبيعة حياة حرة طليقة قبل أن يلتقي بالمرأة الني نقلته، بعد الفعل الجنسي، من حياة البداءة والحرية الحيوانية المفرغة من المضمون، إلى حياة الجماعة والحرية ذات المضمون. ووجدنا في آدم الأول تكراراً لإنكيدو. فآدم قد خلق من طين وعاش في الطبيعة يأكل من حيث شاء رغداً إلى أن جاءت حواء وأطعمته من ثمرة الجنس المحرم، وخرجت به من عالم حرية الطبيعة إلى الحرية الإنسانية ذات الهدف والمضمون، فشكلا وأولادهما الجماعة البشرية الأولى التي تعمل وتكد وتلاقي الموت من أجل استمرار الحضارة التي ابتدأت معهما. وتشكل العلاقة مع المرأة في كلا القصتين، نوعاً من طقس العبور، أو الطقس الإدخالي Initiation الذي نقلهما من السذاجة الأولى إلى المعرفة. ففي سفر التكوين يغدو آدم وحواء عارفين بالخير والشر، و «تنفتح أعينهما» عقب المباشرة الجنسية. ثم يخرجان من جنة عدن، عالم الطبيعة الحيوانية، إلى الأرض عالم الطبيعة الإنسانية ليعملا ويكدا مبتدئين الفعل الحضاري الخلاق الأول، في دنيا الاختيار والحرية الإنسانية ذات المضمون والغاية. وكذلك الأمر في ملحمة جلجامش حيث:
تعثر إنكيدو في جريه، صار غير الذي كان
لكنه غدا عارفاً، واسع الفهم
ثم تقوده المرأة إلى مساكن الرعاة حيث يبدأ بممارسة حريته الملتزمة، فيحرس قطعان الماشية ويطارد الأسود ليكفي الرعاة شرها، وبعدها ينتقل إلى حياة المدينة حيث يقود مع جلجامش حملته الكبرى ضد رمز الشر.
وكما كانت الحية مسؤولة، في ملحمة جلجامش، عن خسارته للنبتة التي تجدد الشباب، كذلك كانت في قصة آدم وحواء التوراتية، مسؤولة عن خسارتهما للحياة الخالدة في جنة عدن.
وجنة عدن التي أعدت للخالدين، في التصور التوراتي هي المكان الذي تصدر منه الأنهار: «وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس»- التكوين 2: 8-14. وكذلك الأمر في المكان الذي أسكنت فيه الآلهة أوتنابشتيم وزوجته الخالدين، إذ تصفه الملحمة في أكثر من موضع بأنه يقع حيث فم الأنهار.
جلجامش وشمشون:
يحدثنا سفر القضاة في الإصحاحات 14 و15 و16 عن بطل اسمه شمشون، أرسله الرب لتخليص بني إسرائيل من اضطهاد الفلسطينيين لهم. تلده أمه العاقر إثر معجزة من الرب، ويُظهر شمشون منذ يفاعته قوى خارقة زودته بها العناية الإلهية لأجل إتمام مهمته التي نذر لها. فكان يقتل الأسود بيديه العاريتين، ويصرع المئات من جنود الأعداء في كل انقضاض له عليهم. وعندما تسلم القضاء في إسرائيل، بدأ حرباً على الفلسطينيين من دون جنود ولا معدات، فكان يقاتل وحيداً على طريقة حرب العصابات مستخدماً قوته وحيلته. وفي النهاية تمكن منه أعداؤه بواسطة امرأة اسمها دليلة كان يتردد على بيتها ويعاشرها، فعرفت المرأة سر قوته ومكمن ضعفه وأسلمته إلى الفلسطينيين.
على الرغم من ضعف الصلة بين عناصر هذه القصة وعناصر ملحمة جلجامش، إلا أنه من الواضح أن محرري التوراة، قد استلهموا في رسم قصتهم عن شمشون بعض العناصر الشائعة في التقاليد المحلية، والمتسلسلة من ملحمة جلجامش التي كانت معروفة في فلسطين على ما تدل عليه كسرة لوح فخاري تحتوي على جزء صغير من ملحمة جلجامش، عُثِرَ عليها في موقع مدينة مجدو القديمة، وترجع هذه الكسرة بتاريخها إلى القرن الرابع عشر ق.م. وفيما يتعلق بالاسم شمشون، فيبدو أنه مستمد من تقاليد مصرية حول جلجامش الذي عرف في مصر بالاسم «شون» أو «شوم».
قصة الطوفان:
هناك شبه كبير بين قصة الطوفان التي يرويها أوتنابشتيم لجلجامش، وقصة الطوفان في التوراة الواردة في سفر التكوين الإصحاحات (6و7و. ففي كلتا القصتين هنالك قرار إلهي بتدمير الأرض بطوفان عظيم؛ يلي ذلك اختيار رجل صالح لإنقاذ بذرة الحياة على الأرض، عن طريق بناء سفينة عملاقة يحمل فيها أهله ومن الحيوانات اثنين اثنين، ذكراً وأنثى. ولكن الإله التوراتي يهوه يلعب منفرداً، في القصة التوراتية، الأدوار المختلفة للآلهة البابلية. ففي طوفان جلجامش نجد أن مجمع الآلهة يتخذ قرار الطوفان، والإله إنليل يرسل الطوفان ويدمر الحياة على الأرض، والإله إيا هو الذي يأمر ببناء السفينة وإنقاذ بذرة الحياة. أما في الطوفان التوراتي فإن الإله يهوه هو يتخذ قرار الطوفان، وهو الذي ينفذه، وهو الذي يأمر ببناء سفينة.
جلجامش وثيسيوس:
نلمح في شخصية ثيسيوس، في الأسطورة الإغريقية، سمات واضحة من شخصية جلجامش. فهو ابن ملك أثينا، وكانت أمه قبل إنجابه عشيقة لبوسيدون إله البحر. وعن طريق بوسيدون، تسلل إليه بعض الدم الإلهي. نشأ متفوقاً على جميع الرجال في قوته الجسدية وأنجز أعمالاً بطولية خارقة أهمها قتل ثور الميناتور الكريتي، الذي كانت أثينا ترسل إليه في كل عام دية مؤلفة من زهرة شبابها ليلتهمهم (قارن مع قصة ثور السماء في الملحمة). ثم هبط مع صديقه المخلص بيريتوس (الذي كان يلازمه كملازمة إنكيدو لجلجامش) إلى العالم الأسفل لاختطاف يبرسفوني زوجة هاديس إله عالم الموتى، ولكن العالم الأسفل أمسك بالثاني كما أمسك بإنكيدو، واستطاع ثيسيوس تخليص نفسه والصعود تاركاً صديقه في الظلام الأبدي. وقد حكم ثيسيوس أثينا كملك بعد وفاة أبيه.
جلجامش وأخيل:
كان أخيل الشخصية المركزية في إلياذة هوميروس المعروفة. أنجبته إلهة مائية ثانوية اسمها «ثيتيس» من زوجها «بيليوس» ملك صقلية، فكان مزيجاً من إله وبشر (قارن مع الإلهة الثانوية ننسون أم جلجامش، ومزيجه الإلهي). حاولت أمه أن تهبه نعمة الخلود فغمسته في ماء نهر «ستيكس» الإلهي الذي يذهب بالجزء الفاني من الجسد ويبقي على الجوهر الخالد، فغمره الماء إلا كاحله الذي كانت تمسك به، وبذلك بقيت في جسده نقطة ضعف إنساني يتسلل منه البلى إليه (قارن مع سعي جلجامش إلى الخلود). ولما تدرج نحو الفتوة عهد به أبوه إلى الصنتور الحكيم «كيرون» الذي رباه وعلَّمه. كان كيرون يطعمه أحشاء الأسود ومخ عظام الدببة الهائلة لتقوية جسده، ويعلمه الكتابة ومختلف أنواع العلوم والحكمة. فشب قوياً في جسمه وعقله (قارن مع قوة جلجامش وحكمته). شارك أخيل في حروب طروادة وكان أعظم أبطالها، واشتهرت صداقته الحميمة لبطل آخر من أبطال الإلياذة اسمه «باتروكليس» وتناقلت الأخبار قصة الحب الكبير الذي نشأ بينهما. وكان مصرع باتروكليس على يد الطرواديين السبب في عودة أخيل إلى القتال بعد أن اعتزله مدة طويلة لخلاف مع «أغاممنون» (قارن مع علاقة جلجامش وإنكيدو). وعندما تأخر أخيل في دفن صديقه بسبب إطالة مراسيم الدفن وطقوس الحزن، ظهر له شبح باتروكليس من العالم الأسفل وكلمه (قارن مع تأخر جلجامش في دفن إنكيدو وطقوس الحداد التي أقامها، وظهور شبح إنكيدو من العالم الأسفل).
وفي نهاية ملحمة هوميروس يموت أخيل بسهم سدده إليه «باريس»، إذ يصيب السهم كاحل أخيل في نقطته البشرية الضعيفة (قارن مع فشل جلجامش في الحصول على الخلود، وقبول طبيعته البشرية).
مواضيع مماثلة
» لماذا نقرأ العهد القديم؟
» مول الامارات بين الغرب و الشرق
» خريطة الشرق الاوسطي الجديد
» وصفة طعام من دمشق سحر الشرق
» سلع امريكية مسرطنة تباع في الشرق الاوسط....
» مول الامارات بين الغرب و الشرق
» خريطة الشرق الاوسطي الجديد
» وصفة طعام من دمشق سحر الشرق
» سلع امريكية مسرطنة تباع في الشرق الاوسط....
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى